منذ بدايات كورونا؛ برزت الحاجة إلى تغيير السلوك البشري المستهتر، وشرع الناس، قلقين، في التعامل الجاد مع أجواء الحياة التي لم تعد بنقائها النسبي كما في الماضي، وقد كانت الكِمَامَة، التي هي غطاء يوضع على الفم والأنف اتقاءَ الغازات السامة والأوبئة الفيروسية والغبار الضار ونحو ذلك، مثلما تعرفها المعاجم، كانت أوضح شيء دخل أنظمة الناس اليومية مستقرا فيها، بشتى أنحاء العالم، كنتيجة طبيعية لظهور الفيروس المستجد واستمراره ورسوخه، من غير أن يجد الخبراء الصحيون له حلولا قطعية حتى الساعة، ومن غير أن يبشِّر الخلق المتلهفين إلى ما يطمئن قلوبهم مبشِّرٌ، موثوق في علمه، بقرب الخلاص من البلاء الحاضر، بل على العكس يتزايد التحذير من موجات عاتية جديدة من الوباء اللعين في العام القادم القريب، ويقال إنها ستكون أوسع أثرا وأكبر خطرا، بخاصة في أوروبا!
ارتدى الجميع كماماتهم، ومع ظهور الموجة الثانية في هذا الشتاء زاد الإقبال عليها والالتزام بها، إلا المهملين، وقد كانت الكمامات، حين تفشى الوباء في الأمم، نمطا ضروريا لا بد منه، وفي بعض الدول التي زادت فيها أرقام المعتلين كان جبريا وليس اختياريا؛ فغير الملتزم يعاقب بالغرامة لأنه قد يصيب الآخرين بالأذى الشديد فضلا عن ما قد يصيبه هو لأنه هكذا لا يحتاط لنفسه..
صحيح كان هناك من سارعوا بالتخفف من الكمامات، بعد أن تحسنت الأوضاع ببلدانهم عن الأول، في وقت سابق معلوم، وهؤلاء مخطئون بلا شك، لكن الكمامات صارت ثقافة ملبس لصيقة بالجموع البشرية في العموم؛ فهي الآن قطعة أساسية لا يستغني عنها إنسان، كمثل القميص والبنطال بالضبط.
كانت الكمامات، قبل كورونا، سلعة مركونة في الصيدليات؛ ندر أن يطلبها الناس ولذا كان من أعجب تفاسير ظهور الوباء وانتشاره أنه صناعة عالمية لترويج بضائع طبية كاسدة، قامت بها شركات عملاقة للأدوية والمواد الطبية، مستعينة بالشياطين ربما، ولا يتوقف الأمر هنا على الكمامات وحدها للأمانة، لكنه ينطبق على أنواع كثيرة من الأدوية والمواد الطبية التي عادة ما تجد رواجها في ظل ظروف عسيرة قاسية كالظروف الوبائية، وإن بدا هذا التفسير منطقيا لدى الموقنين بنظرية المؤامرة وأشباههم، إلا أنه التفسير الذي لم تثبت صحته بالمرة، ولم تقم أدلة قطعية عليه، وقد يكون عززه تضارب الأقول بشأن الوباء المستجد، وغرابة تصريحات المنظمة الصحية العالمية أحيانا، مع تسريبات، أكثرها ملفق وليس منطقيا، تشير إلى تورط هذا الكيان أو ذاك فيما يجري من الخطر الوبائي على الأرض منذ عام ويزيد.
في الحقيقة أحاطت بهذا الفيروس القاتل، منذ ظهوره وحتى الساعة، ألغاز وألغاز، ليس أسهلها سؤالنا: من أين انطلق؟ ولا أصعبها سؤالنا: متى يزول؟.. فالمجال يتسع للسهل والصعب من الأسئلة والأقاويل، بمدى تواجد الوباء في بلدان العالم بغير عدالة، أعني بزيادته الملحوظة في قارة عن قارة ودولة عن دولة وإقليم داخل دولة عن إقليم آخر، وليس من العجيب أن تبدو الصين الآن هي الكيان الأكثر حصانة من الفيروس؛ فلا حالات جديدة في ووهان التي كان قيل إنها مصدر الوباء، وكانت معظم التوقعات تفيد بأنها ستكون الخاسر الأكبر في معركة العالم ضد الوباء المفاجئ.
لا يبدو الأمر عجيبا، فيما قصدت، لأن الأعاجيب تلف الموضوع كله لفا، وهو ما فتح الأبواب على مصاريعها للشائعات إلى اللحظة الراهنة، بل حتى في مسألة اللقاحات الشافية أو الأمصال الواقية، أيهما أصح فهناك خلاف حول المسألة، كما أن كل مسألة تتصل بالموضوع هي محل خلاف، أعني حتى في هذه المسألة، هناك صراع بين القوى الكبرى في العالم، صراع قائمٌ وضارٍ، حتى لو بدا تنافسا دوائيا مشروعا، وقد انقسم العالم في ذلك إلى قسمين كبيرين، أحدهما يؤمن بالمنتج الأمريكي، والآخر بالصيني، مع وجود كيانات محدودة تؤمن بالاجتهاد الأوروبي في هذا الإطار، أو تنتظره، وعلى هذا يمكن القطع بأن العالم الذي كان يجب أن يتوحد بإزاء الخطر؛ فشل وانقسم انقساما.. وقد يقول : لا بأس بما يجري؛ فهو مقبول لو أنه أعطى نتائج جيدة تبشر بزوال الغمة العالمية، إلا أن القول، بالرغم من توافر حسن النية فيه، يعد قولا شديد التسامح إلى حد السذاجة؛ لأن المقولات الأخرى تشير إلى تحور الفيروس، والمعنى قصور اللقاحات والأمصال عن أن تلاحق تطوراته، كما أن طبول الحرب تدق بعنف تحت السطح الذي يبدو إنسانيا وعلاجيا؛ لأن الحقيقة التي يهرب منها الجميع أن الحكاية حكاية حرب اقتصادية شرسة، لا زالت تتسم بالهدوء النسبي، لكنها لا يغيب عنها البعد الاجتماعي والسياسي طبعا، وتنذر تقلباتها بحرب عسكرية عالمية تضم تحالفات رهيبة وانقلابات مريبة كفيلة بتغيير الخرائط!
الإجابة عن السؤال الذي عنونت به مقالي”هل غيَّرت الكمامة العالم؟!” تحتاج في الحقيقة إلى إحصائيات دقيقة مفتقدة عن شكل العالم قبل كورونا وبعده، الشكل العميق لا القشرة الخارجية ما أعنيه، فالإجابة عن سؤالي الذي يبدو بسيطا، وليس ببسيط بالمرة، تستلزم معرفة كاملة بالممارسات البشرية سابقا ولاحقا، وهكذا تتطلب إجابات عن أسئلة أخرى متصلة بالسؤال الأساسي في الصميم، من قبيل:كيف أثرت الكمامة على اقتصاديات البيوت والمؤسسات؟ هل كان تأثيرها سلبيا (مكلفا من خلال استنزافه الميزانيات الخاصة والعامة) أم إيجابيا (منظما مسألة الإنفاق ودافعا إلى التخلص من الكماليات والزوائد)؟،وكيف وجد الناس أشكالهم فيها؟ (أأعجبتهم وجوههم بالأغطية الطبية وعثروا فيها على ما يقتل الممل من طول الانكشاف أم ضجروا سريعا ولم يتقبلوها وحنوا إلى وضوحهم الأول المألوف؟)، وإلى أي مدى طورت مستخدميها أو عادت بهم إلى الوراء؟ (المعنى أغيرت النفوس إلى التسليم بالضرورات أم دفعتها إلى التمرد والتزمر؟)وهل زادت معدلات الجريمة بسبب الكمامة مثلا (لأنها قناع مّا) أم قلَّت؛ لأن المجرمين، كغيرهم من الخلق، غلب خوفهم من الداء الوبائي أشواقهم العارمة إلى حصائل الجرائم؟.. إلخ إلخ (على نفس المنوال).
ليس لدينا مثل هذه الإحصائيات طبعا، أقصد نحن والعالم كمجتمعات إنسانية متوحدة أمام ما يواجهنا جميعا من الكوراث الفجائية بالذات، ولا أظن أحدا من الناس يهتم، ولا أظن مركزا بحثيا، ولو جادا،لديه من الإمكانيات المادية أو الاستعدادات العلمية أو الطاقات الوظيفية المتفرغة، ما يؤهله للقيام بالمهمة العجيبة الشاقة؛ وعليه فإن السؤال يبقى بلا إجابة تقريبا، وهو الذي في الإجابة الصحيحة عليه تكمن الصورة المرادة، الصورة الأمينة لخريطة العالم الجديدة بعد كوفيد-19!