بقلم: د.صلاح أبونار، نقلًا عن موقع جريدة عُمان، المصدر الأصلي
أسابيع قليلة تفصلنا عن شهر مايو ومع بدايته ستبدأ الرياح الموسمية الجنوبية الشرقية في الهبوب على الهضبة الأثيوبية، ليبدأ هطول الأمطار على بحيرة تانا ومنها تتدفق إلى النيل الأزرق، المسؤول عن 70% من مياه المجرى الرئيسي عند الخرطوم. وبوصول المياه لمواقع سد النهضة ستدخل أزمة السد من منتصف يونيو مرحلة تصعيد استثنائية، مع حلول الموعد الذي حددته أثيوبيا للملء الثاني للسد. وهو ما ترفضه مصر والسودان قبل الوصول إلى اتفاق شامل ونهائي، يتسع ليشمل كل مراحل الملء وقضايا توزيع وإدارة المياه في سنوات الأمطار العادية والجفاف الممتد ونظام ملزم للتحكيم.
يجمع المحللون على اعتبار التعنت الأثيوبي المسؤول الأساسي عن أزمة مفاوضات السد، ولكن غالبيتهم تنظر للأزمة من منظور العملية التفاوضية. والأمر المؤكد أن أي عملية تفاوض لها تأثيرها الجوهري على الأزمة التي تواجهها، ولكن الوقوف عند حدودها من شأنه أن يهمش دور العوامل البنيوية العميقة المساهمة في تشكيل الأزمة ومأزقها التفاوضي. ويدفعنا هذا لإعطاء كلا الجانبين ما يستحقه من اهتمام.
ما هي المؤشرات الدالة على التعنت الأثيوبي؟ لدينا نمطان من المؤشرات. أول يرصد تاريخ ومنحنيات العملية التفاوضية، لتحديد مسؤولية كل طرف عن مأزق المفاوضات، التي انطلقت من مارس 2012 تاريخ بدء عمل لجنة الخبراء الدولية، ومرت بمحطات متتابعة أهمها مفاوضات اتفاقية «إعلان المبادئ حول مشروع سد النهضة» 2 مارس 2015 ، وجولة مفاوضات واشنطن ديسمبر 2019 – فبراير 2020.
ويتميز هذا النمط بوضعنا في قلب تفاصيل فوارق المواقف التفاوضية، لكنه يواجه تحديات تضعف مصداقية المادة التي يستند إليها. فما لدينا بالأساس هو حديث الطرفين المصري والأثيوبي عن مسارات التفاوض، أما الطرف السوداني فيلجأ في بياناته لاستخدام لغة مفرطة التحفظ والدبلوماسية. وتلك الشهادات بطبيعتها الصراعية والنسبية ينبغي اختبارها على ضوء شهادة جهة ثالثة محايدة، وحتى الآن لم تظهر تلك الجهة. وتمنحنا شكوى وزير خارجية مصر لمجلس الأمن في 1 مايو 2020 و شكوى وزير خارجية أثيوبيا في 14 مايو 2020، نموذجا للانعكاس العميق للصراع على شهادات طرفي التفاوض عن عملية التفاوض، فما من واقعة ترصدها مصر في مسيرة المفاوضات وتمنحها دلالات معينة إلا وتطرحها أثيوبيا من منظور آخر نقيض. وفي 4 مايو 2020 نشر الدكتور محمد هلال أستاذ القانون بجامعة الدولة في اوهيو، ثلاثة مقالات قصيرة على موقع اوبنيون جوريس القانوني ، تحمل شهادته المباشرة عن المفاوضات. وتمنحنا المقالات الكثير الذي يمكننا من الجزم بمسؤولية أثيوبيا، ولكن مشكلتها أن كاتبها لم يشارك في التفاوض إلا لمدة عام من عشرة أعوام، وانه كان مستشارا قانونيا للفريق المصري.
والنمط الثاني من مؤشرات مسؤولية مأزق المفاوضات، نجده في رصد وتقييم نقاط الخلاف الأساسية المعلنة التي لا ينكرها أي من الطرفين. في خطابي أثيوبيا ومصر السابقين سنجد الخلافات واضحة ويشير أغلبها إلى التعنت الأثيوبي. ترفض أثيوبيا الاتفاق على معادلة لتقاسم المياه في سنوات الجفاف الممتد، وتطالب بتوافقات متغيرة عبر التشاور في سنوات الجفاف نفسة. ورغم مقترح الالتزام بحد أدنى لمياه السد، يمكنها في أقصى حالات الجفاف من توليد الكهرباء بنسبه 80% رفضت الاقتراح. وترفض أثيوبيا أي آلية قابلة للتطبيق لمراقبة وضبط كمية التدفقات المائية المتفق عليها لدول المصب، وأي ربط بين مستوى مياه سد النهضة ومستواها في السد العالي بما يحفظ الحد الضروري لمواصلة قدرته التوليدية.
وترفض أثيوبيا الاتفاق على أي آلية رسمية للتحكيم في المنازعات، وتصر على عمليات تشاور بين الطرفين بطبيعتها تقديرية وغير ملزمة. وأخيراً ترفض الربط بين الاتفاق النهائي حول السد، وإقامة أي سدود مستقبلية على النيل الأزرق تؤثر على مستوى تدفق المياه إلى دول المصب.
ماذا بشأن العوامل البنيوية المساهمة في تشكيل الأزمة ومأزقها التفاوضي؟. يمكننا رصدها على عدة مستويات. سنجد المستوى الأول في التناقض بين المفاهيم الضمنية والصريحة المنظمة لحق البلدين في مياه النيل بوصفة نهرا دوليا. حتى توقيع اتفاقية مارس 2015، سيطر على الخطاب المصري مفهوم الحقوق الطبيعية والتاريخية في مياه النيل وبعد ذلك اختفى رسميا. تأسس المفهوم عبر عدة معاهدات دولية، أهمها اتفاقية 7 مايو 1929، واتفاقية 8 نوفمبر 1959. وهو يتكون من عنصرين. لمصر نصيب مياه سنوي ثابت يصل إلى 48 بليون مترا مكعبا وفقا لاتفاقيه 1929، و55.5 بليون وفقا لاتفاقية 1959. وليس من حق دول المنابع إقامة منشآت على مجراه تؤثر على تدفق المياه إلى مصر إلا بعد موافقتها. وتخلت مصر رسميا عن هذا المفهوم في إعلان 2015 ، وتبنت مبادئ « اتفاقية الأمم المتحدة لقانون استخدام المجاري المائية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997»، لكنه حافظ ضمنيا على درجة من تأثيره القديم. وفي المقابل أطلقت دول المنابع مفهوما جديدا لتنظيم علاقاتها بمياه النهر. انطلقت مسيرة تكونه في الستينات، مع إعلان رفضها للمعاهدات البريطانية القديمة لأنها معاهدات عقدتها سلطة استعمارية. واكتسب دعما قانونيا دوليا مع توقيع معاهدة الأمم المتحدة لعام 1997، ومع إطلاق مبادرة حوض النيل عام 1998. وعلى مدى العقد الأول اتسع نطاق عمل المبادرة ، وسعت لوضع ما دعته « معاهدة الإطار التعاوني «، وبالفعل توصلت لنصها النهائي في سبتمبر 2010 لتطلقه للنقاش والتوقيع. وتسعى المبادرة لتنمية تعاون دول الحوض من اجل التوظيف التنموي لمياه النيل، مع إرساء إطار قانوني ملزم يحل محل اتفاقيات التقاسيم السابقة وصولا لما تدعوه التقاسم العادل والمنصف لمياه النيل، ولكن الأهم أنها تحظى بتأييد واسع ومتصاعد داخل دول منابع النيل. وشاركت مصر في المبادرة منذ انطلاقها، ولكن مع طرح معاهدة الإطار التعاوني ومطلب إعادة تقسيم المياه جمدت مشاركتها، وجاء التوقف المصري ليطلق العنان للمبادرة في اتجاهها الجديد، الأمر الذي شكل مناخا مواتيا للمواقف الأثيوبية. فلقد حمل معه اتجاها جماعيا يحظى بشرعية متزايدة يتبنى فكرة إعادة تقاسم المياه، وخلق جبهة مساندة للتعنت الأثيوبي، وقلص قدرة الضغط المصرية عبر التحالف مع شركاء الحوض، والأخطر انه قد يخلق مع الأيام تيارا يطالب بتوسيع دائرة المشاركين في مياه النيل الأزرق.
وسنجد المستوى الثاني في تحولات دول المنابع الجيوبوليتيكية. لم يأت الاستقلال السياسي لتلك الدول معه بالاستقرار السياسي ولا التنمية، وعند نهاية الحرب الباردة كان أغلبها يعاني الصراعات الأهلية والحروب مع دول الجوار. وأسفر هذا عن ضعف مؤسسي، وعجز عن الوصول لموارد الدعم الخارجي، وغياب استراتيجيات التنمية المائية. ولكن العقدين الأخيرين شهدا تطورات هامة غيرت واقعها السياسي. فلقد تراجعت الصراعات الأهلية وخمدت الحروب الإقليمية، وظهرت حكومات مستقرة حملت معها قدرا من المؤسسية والمشاركة، وانطلقت أدوار إقليمية نشطة، وتدفقت الموارد الخارجية. وشكل هذا مناخا دافعا لإطلاق خطط للتنمية والتعاون الإقليمي حملت معها قرينها المائي. وتمثل أثيوبيا نموذجا بارزا لهذا التحول. أهدرت أثيوبيا منذ الستينيات موارد ضخمة في حروبها مع الصومال وارتيريا ثم حروبها الأهلية، ومع بداية الألفية الجديدة وجدت نفسها في حالة استقرار سياسي ، مكنها من إطلاق مسيرة التنمية الاقتصادية والسياسية، وتنشيط دورها السياسي في القرن الإفريقي. وجاء ضغط نموها السكاني الذي قفز فيما بين 2000- 2019 من 66 مليونا إلى 112 مليونا ، لكي يشكل قوة دافعة للمزيد من التحولات، والأهم ليدفعها صوب تطوير سياستها المائية . وكان من شأن هذا التحول الجيوبولوتيكى العام أن يخلق بيئة سياسية ، تنزع لتنشيط التعاون بين دول حوض النيل وتعمل على بناء إطره المؤسسية، وفى هذا السياق النشط تقدمت مياه النيل لتصبح البؤرة الأساسية للتعاون الإقليمي. وحدث هذا بينما أخذ الدور المصري الإفريقي في الانحسار الشديد، وتصاعد التوتر في العلاقات المصرية الإثيوبية ، الأمر الذي غيب مصر لعقود عن الحضور المؤثر في سياسات دول حوض النيل.
وسنجد المستوى الثالث في تحولات العلاقة بين العرض والطلب المائي داخل دول حوض النيل. في اللحظة الراهنة يتخطى بمراحل عرض المياه المتاحة وليس المياه الصحية الطلب عليها، فيما عدا مصر والسودان. وتشير التوقعات إلى متغيرين سيقلبان علاقة العرض والطلب على المدى المتوسط والطويل. تتوقع دراسة لجامعة دارموث نشرت أغسطس 2019 نقص مياه متصاعد على مدى القرن الراهن، سيبدأ عام 2030 عندما يتخطى الطلب على المياه عرضها في دول الحوض، وخلال عقود القرن الأخيرة لن يجد 170مليونا من سكان الحوض ماء كافيا خلال سنوات المطر العادية، رغم زيادة معدلات الأمطار وتحت تأثير تزايد مواسم الجفاف وارتفاع الحرارة وبخر المياه. ولكن الطلب المائي سيأخذ في الارتفاع مع تزايد السكان والتوسع في الزراعة المروية. وفقا لتقديرات الأمم المتحدة وصل عدد سكان إفريقيا جنوب الصحراء عام 2019 إلى 1.066 مليار، ومن المتوقع وصولهم الى1.400 مليار عام 2030، ثم 2.117 مليار عام 2050 . وسيقود هذا إلى مضاعفة مساحة الأرض المروية في دول المنابع، لتقفز من 5 ملايين هكتار حاليا إلى 10 ملايين عام 2050، ومعها سيتضاعف الطلب على المياه في كافة الاستخدامات. ومن شأن تلك التحولات التي تظهر بوادرها من الآن، أن تخلق ديناميات تحول جامحة في دول المنابع تسعى من الآن نحو تأمين المياه في وجه النقص القريب.