في أحد مشاهد الفيلم الدرامي المتميز “البحث عن سيد مرزوق” للمخرج المبدع داوود عبد السيد٫ يشرح الثري الانفتاحي سيد مرزوق (الراحل علي حسنين) لصاحبه الموظف البسيط يوسف (الراحل نور الشريف) إن الناس في هذه الدنيا أربع انواع وبعد أن يسرد الأنواع الثلاثة الأولى٫ يساله يوسف ببراءة وتلقائية شديدتين عن النوع الرابع ، فيجيب سيد على الفور انهم “المشاغبون” أو بعبارة أخرى المتمردون الساعون الى تغيير الواقع المعاش وإنْ بالقوة.
الشرقاوي ..والاحتلال .. والإقطاع
لطالما شغلت هذه الفئة الرابعة التي تحدث عنها مرزوق خيال المبدعين لا سيما مبدعي الفن السابع (السينما) فتباروا في تقديم هذا النوع من الشخصيات على الشاشة الفضية محاولين تقديم إجابة لسؤال قديم حائر: لماذا تتباين النظرة لهذه الفئة هذا التباين الهائل؟ بين سلطة تراهم “مشاغبين” ومجرمين على حد تعبير سيد مرزوق وبين البسطاء من العامة الذين يرفعونهم إلى مقام الأبطال؟
ولعل من أبرز هؤلاء “المتمردين” متمرد كبير حفظت الذاكرة الشعبية اسمه وسيرته هو أدهم الشرقاوي٫ الفلاح المصري الذي وصفته الصحافة بال”شقي” بينما اعتبره الخيال الشعبي بطلاً.
كان من الطبيعي أن تجذب شخصية كهذه صناع السينما٫ فقدم المخرج الراحل حسام الدين مصطفى فيلماً يحمل اسم “أدهم الشرقاوي” عام ١٩٦٤ وصاغ له السيناريو والحوار الكاتب سعد الدين وهبة عن نص للفنان الشعبي زكريا الحجاوي..
وقد صاغ وهبة شخصية الشرقاوي التي جسدها الفنان عبد الله غيث بشكل يتناسب مع المرحلة التي قُدم فيها الفيلم ٫لا ك”شقي” أو كخارج عن القانون وإنما كمناضل وطني يواجه الاحتلال الإنجليزي والإقطاعيين على حد سواء ويقتص للفلاحين الذي يعانون من ظلمهما معاً.
استفاد الفيلم إلى حد كبير من صوت عبد الحليم حافظ الذي أضفى على أحداثه طابعاً ملحمياً٫ خاصة مع مشاهد عمليات الشرقاوي الجريئة أو مشهد استشهاده في نهاية الفيلم.
قضبان .. سعيد مهران
وعلى خطى الشرقاوي٫ جاء “سعيد مهران”٫ تلك الشخصية التي صاغها الكاتب الكبير نجيب محفوظ في روايته “اللص والكلاب”٫ ذلك المتمرد الذي يخرج من السجن بحثاً عن الثأر من كل من خانوه٫ زوجته التي تزوجت بغيره٫ صديقه الذي اقترن بزوجته في غيابه٫ الصحفي “رؤوف علوان” الذي شكَّل فكره ثم خان المبادئ التي لقنها إياها٫ لكن كافة محاولات مهران للانتقام من “الكلاب” – كما يسميهم – تبدو عبثية٫ حيث ان الأبرياء هم الذين يسقطون ضحايا رصاصاته في حين يفلت الخونة من الانتقام.
حول المخرج كمال الشيخ هذه الرواية الى فيلم يعد من كلاسيكيات السينما المصرية٫ أجاد فيه توظيف القدرات الأدائية لفريق مميز من النجوم على رأسهم شكري سرحان في دور سعيد مهران وشادية في دور نور التي تحب سعيد دون جدوى وكمال الشناوي في دور رؤوف علوان وغيرهم٫ كما كان سيناريو صبري عزت معبراً بحق عن الخلفية الاجتماعية والفكرية لكل شخصية٫ وأجاد الشيخ استخدام الإضاءة ليوحي بأن مهران المطارد دوماً يخرج من سجن إلى آخر٫ فترسم الإضاءة شكل قضبان تلاحق مهران في أغلب المشاهد.
منتصر ..المنتقِم.. المطارَد
وفي عام ١٩٩١ قدم المخرج الراحل عاطف الطيب فيلمه “الهروب” الذي بدت فيه شخصية البطل “منتصر” التي جسدها المبدع الراحل أحمد زكي وكأنها- كما وصفها الناقد الراحل سمير فريد- خليطاً من “سعيد مهران” و”ادهم الشرقاوي” كما انه ايضاً خليط من بطلي فيلم “البرئ” و”الزمار” لعاطف الطيب.
في “هروب” الطيب٫ يدخل منتصر الصعيدي السجن ظلماً لرفضه أن يتواطأ مع شريكه في عملية نصب يكون ضحاياها عمالاً بسطاء ينتمون للصعيد أيضا مثل منتصر يبحثون عن فرصة عمل في الخارج.
يخرج منتصر من السجن مدفوعاً بعقيدة الثأر المتجذرة داخله كصعيدي ليفرغ نار غضبه في شريكه الذي ظلمه وفي شريكته القوادة المتسترة خلف منصبها كناظرة مدرسة ويمتد انتقامه -ولو بالخطأ- الى زميله السابق الذي صار واحداً من أكبر تجار العملة.
لا يكتفي الطيب وكاتب السيناريو مصطفى محرم برحلة الثأر هذه بل يضعونها في سياق أعم وأكبر٫ فنوعية ضحايا منتصر تُكسبه تعاطفاً شعبيا تعكسه الصحافة والتغطية الاعلامية ولكنه في ذات الوقت مطارد من قوات الأمن٫ الأمر الذي يعكس الثنائية المشار إليها في بداية هذا المقال..
وكما كان الحال مع كل من مهران والشرقاوي٫ فان منتصر يلقى مصرعه على يد مطارديه٫ لأن تمرده – تماماً مثل أدهم الشرقاوي وسعيد مهران- كان أكثر من قدرة البعض على الاحتمال.