كانت وستظل الثورات الكبري في التاريخ مثل ثورة يوليو ١٩٥٢ حقلًا خصبًا للتقييمات والمراجعات المتباينة بل والمتناقضة حسب المنظور الفكري والطبقي والموقع المحلي والإقليمي والدولي من هذه الثورات. ويُعد من أهم وأعمق التقييمات المتباينة التي تعرضت لها ثورة يوليو ما قدمته فصائل وأجنحة مختلفة من التيار الماركسي المثقف لها.
وفي الذكري الـ٦٩ لثورة يوليو نُعيد في {أصوات} نشر جزء من دراسة عميقة كتبها المفكر الماركسي البارز د. محمود أمين العالم ونشرت في كتاب صدر عام ٧٤ – أي بعد وفاة واختفاء سلطة عبد الناصر وقدرتها علي الثواب والعقاب بأربعة أعوام كاملة – ويقدم فيها نقدًا علميًا [لمقولتي رأسمالية الدولة والعداء للديمقراطية] اللتين رددتهما أجنحة ماركسية اخري ومازالت لتنزع من خلالها عن الثورة (٥٢ – ٧٠) طابعها التقدمي الاشتراكي ولا تضع في حسابها ما أنجزته في مجال الديمقراطية الاجتماعية وتركز فقط علي غياب الديمقراطية السياسية – أحيانا كما يقول العالم – باستخدام معايير رأسمالية وليست اشتراكية.
اللافت للنظر أن أراء الدكتور العالم أصبحت – مع نضج الخبرة السياسية وتراجع أمد الخصومة التاريخية – هي أساس الموقف السياسي العام من ثورة يوليو – مع تفاوتات نسبية – للأحزاب الأربعة الماركسية المهمة سواء المرخص لها او تحت التأسيس وهم أحزاب التجمع والتحالف والاشتراكي المصري والشيوعي المصري. وإن كان هذا لا يقلل من أهمية أو عمق تقييمات مدارس ماركسية أخرى منظمة او مستقلة افرادًا أو جماعات في تبنيها لمواقف متشددة من ثورة يوليو.
وإليكم جزء دراسة الدكتور محمود أمين العالم..
قد يكون من الضروري قبل أن اختتم هـذه الدراسة أن أعود قليلا إلى الوراء · لأناقش مناقشة سريعة قضيتين مهمتين يثور حولها الخلاف دائما هما : أ- قضية رأسمالية الدولة و ب ـ قضية الديمقراطية .
أ ـ رأسمالية الدولة :
يذهب كثير من الدارسين إلى اعتبار ما تحقق من تأميمات عام 60 – 61 وما بعدها ، ومن قيام قطاع عام لم يكن إلا رأسمالية دولة تخدم النظام الرأسمالي المصري . بل يذهب البعض إلى أن قيام الثورة عامة منذ ٥٢ لم يكن هدفــه إلا حماية النظام الرأسمالي المصري الذي كان يترنح في هذا العام . أي أن ثورة جمال عبد الناصر لم تكن ثورة وانمـا مجرد انقلاب لحماية النظام الرأسمالي ومواصلة طريق التنمية الرأسمالية بطريقة أشد كفاءة، والقائلون بهذا الرأي إنمـا يغفلون حقيقة أساسية هي قانون الصراع فضلا عن اغفالهم لكثير من العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية . إنهم يستندون أساسا فيا يذهبون إليه إلى استشراء البير قراطية في القطاع العام وتحالفها مع الفئات الطفيلية في القطاع الخاص وهذا حق ، ولكنه حق قاصر . لأنهم لا يرون ما وراء هذه الظواهر من عوامل موضوعية أفرزتهـا ـ على الرغم من الثورة ، لا بفضلها وتشجيعها ـ وما كان يحيط بهذه الظاهرة ويواجهها من صراع محتدم داخل جهاز السلطة ، وفي مؤسساتها السياسية والاعلامية ، وفي المجتمع عامة . كانت السلطة الجديدة تهدف إلى الاستقلال الوطني وإلى التعجيل بالتنمية ، و كانت تتحرك بغير تنظيم سياسي ثوري ، بل في عداء مع التنظيم الثوري كما أشرنا من معا قبل ، ولهذا لم تتمكن منذ البداية من تحطيم جهاز الدولة القديم، ولم تستطع أن يكون لها كادرها السياسي الواعي الذي يحقق لها أهدافها . ولقد استغلت البيروقراطية القديمة و الجديدة هذا الوضع . ولكن هذا لم يكن تعبيراً عن الطبيعة الطبقية لقيادة الثورة ، أو تجسيداً لاهدافها ، بل كان نقيضا لها ولهذه الأهداف ، بل كان قوة معرقلة للتنمية التي تستهدفها قيادة الثورة ومعادية لاهدافها . لهذا كان الصراع داخل قيادة الثورة وبين هذه الظاهرة بل لهذا كذلك كان الصراع داخل قيادة الثورة بشأن هذه الظاهرة ، وكان الفرز المتصل لعناصرها وأفرادها . على أنه كان صراعاً خافتا ، نتيجة للعوامل التي ذكرتها مـن قبل و نتيجة لحرص الثورة على التعجيل بالتنمية دون توفر الكوادر السياسية الثورية القادرة على ذلك . خلاصة الأمر أنه الخطأ أن نعتبر ظاهرة البيرقراطية وتحالفها مع القطاع الطفيلي هي ظاهرة معبرة عن طبيعة قيادة الثورة وفلسفتها الاقتصادية والاجتماعيـة . إنهاظاهرة موضوعية ولكنها نقيضة للثورة . ولعل المحاولات المختلفة التي بذلتها قيادة الثورة ، وخاصة جناحها اليساري بقيادة عبد الناصر ، من اعـداد للكادر الثوري والاداري ، وتنمية للتنظيم الطليعي ، أن يكون تأكيداً لهذا الطابع الصراعي بين هذه القيادة وبين هذه الظاهرة البيروقراطية .
أما القول بأن الثورة قد قامت من أجل حماية النظام الرأسمالي ودعمه فهو قول قاصر كذلك عن إدراك التجربة الناصرية في ديناميكيتها التاريخية . فالذي يحدث في العـادة لدعم النظام الرأسمالي هو تأميم بعض المؤسسات الاقتصادية الخاسرة لا التأميم العام للوسائل الأساسية للانتاج كما حدث في التجربة المصرية ولو كان هدف الثورة حماية النظام الرأسمالي ودعمه لقام عام 57 – ٥٨ ببيع المؤسسات البريطانية والفرنسية والبلجيكية للرأساليـة المصرية كما كانت تريـد. ولكن الذي حدث أن وجهت الثورة ضربات قاصمة للملكية الزراعية الكبيرة، وللرأسمالية الكبيرة ووضعت حداً أعلى للملكية ، وأقامت حاجز أفي وجه التنمية الرأسمالية وخاصة في الوسائل الأساسية للانتاج. إلا أنها في الحقيقة اكتفت بالضمانات التشريعية والادارية ولم تهتم بالضمانات الديمقراطية . فالتـأميمات الكبرى عام 1960 – 1961 وما بعدها ، بل الضرائب التصاعدية العالية ، لم تمنع من استمرار التراكم الرأسمالي لفئات البورجوازية الطفيلية ، فضلا عن البورجوازية الزراعية ، والبيرقراطية. على أن هذا التراكم لم يتحقق بفضل هذه الاجراءات التأميمية ، بفضل خطة الثورة، وإنما برغمها . كان الضمان الأساسي لوقف هذه التنمية الرأسمالية هو الضان السياسي الديمقراطي لا الضمان التشريعي الاداري وهذا ما لم تحققه الثورة ، نتيجة كذلك للظروف الموضوعية التي أشرنا اليها من قبل ، وإن أخذت تنتبه اليها أخيراً . على أنه لا شك أن التـأميات وقيام القطاع العام الانتاجي والاستهلاكي ، لم تكن لمصلحة النظـام الرأسمالي المصري ، وإن استفادت منه الرأسمالية المصرية ضمنا ، وإنما كان لمصلحة التنمية المعجـلة أساسا ، وحداً للنمو الرأسمالي – برغم ثغراته – وتمهيداً لطريق التحول الاشتراكي لو أحسن سد هذه الثغرات .
ب- الديمقراطية:
أما فيما يتعلق بقضية الديمقراطية ، فليس من شك أن تجربة عبد الناصر لم تكن تجربة معادية للديمقراطية كما يقال . وإنما كانت تجربة ديمقراطية محدودة بحدود ملابساتهـا الذاتية والموضوعية. إننا لا نستطيع أن ننكر الطابع الديمقراطي لهذه التجربـة ، لو أدركنا الديمقراطية بمعناها السياسي والاجتماعي معا ، لا بمعناها الليبرالي السياسي الخالص. ولقد قال لينين ما معناه أنه من الخطأ أن نحكم على سلطة من زاوية الديمقراطية الشكليـة وحدها . إنما الحكم عليها يكون من زاوية موقفها من الامبريالية . ومعاداة ثورةعبدالناصر للامبريالية لم يكن مجرد موقف وطني تحرري فحسب ، بل كان كذلك موقفاً معاديـا للرأسمالية والرجعية العالمية والعربية والمحلية ، وهو بهذا يحمل مضمونا ديمقراطياً متقدماً فضلا عن مضمونه الوطني التحرري . ولم تكن الاجراءات الاقتصادية والاجتماعيـة الـتي اتخذتها ثورة عبد الناصر مجرد إجراءات اقتصادية متقدمـة فحسب ، بل كانت تتضمـن دلالات ديمقراطية كذلك مثل القضاء على الملكية الزراعية الكبيرة، والرأسمالية الكبيرة، و الارتفاع النسبي للملكيات الصغيرة . وفضلا عن هذا ، فهناك ـ الاجراءات ذات الطابع الديمقراطي الخالص حتى بالمعنى الشكلي مثل حق العمال الزراعيين في تشكيــل اتحادهم لأول مرة في تاريخهم ، والتوسع في تكوين الجمعيات التعاونية ، ومشاركة العمال في مجالس إدارة الشركات .
ولا شك ان مجانية التعليم وإشاعة الثقافة الوطنية الديمقراطية والمفاهيم التقدمية المعادية للاستعمار والاستغلال جوانب ديمقراطية تنسب للتجربة . حقا ، إن هذه جميعا لا تشكل القسمات الأساسية للديمقراطية المنشودة. بل كان إلى جانبها العداء للشيوعية والشيوعيين ، والسلطة المستشرية للمباحث والمخابرات العامة . وكان هناك الاعتقـال والتعذيب . على أن هذه الأمور ينبغي أن تدرك في ظروفها الذاتية والموضوعية لا لتبريرها وإنما لتفسيرها ، وينبغي ألا تغض من الجوانب الديمقراطية الأخرى للتجربة . ولا ينبغي أن يكون البديل هو تلك الديمقراطية الليبرالية الشكلية العرجاء التي تطلق قوى الرجعية الزراعية والرأسمالية والفكرية لطعن كل إيجابيات ثورة جمال عبد الناصر ، بل لاهـدار طريق استقلالها واقتصادها الوطني وتقدمها الاجتماعي ، وثقافتها التقدمية . لعلي أقول في غير مغالاة ، أن الديمقراطية المنشودة – والتي ما تزال منشودة – تتحقق بالتحالف الوثيق بين اليسار الناصري والشيوعيين المصريين وكل القوى الوطنية والديمقراطية في المجتمـع المصري ، فضلا عن التحالف الوثيق مع كل القوى الثورية في العالم العربي ، هذا إلى جانب إطلاق حرية الطبقات الشعبية وخاصة العمال والفلاحين لتشكيل اتحاداتهـم الديمقراطيـة والمشاركة الفعالة في توجيه مقدرات بلادهم . كانت الديمقراطية بهـذا المفهوم الثـوري هي الحلقة الأساسية الناقصة في تجربة جمال عبد الناصر ، وما تزال حلقة النجاة الأساسية في مواصلة هذه الثورة لمسيرتها .