مختارات

القاص السعودي عبدالله ناصر.. وأثر السينما المصرية علي الوجدان العربي

بقلم القاص: عبد الله الناصر

عبد الله الناصر

صادفتُ اليوم صورة قديمة لفاتن حمامة. يا الله، كم تبدو في غاية اللطف والرقة. لقد كان لها من اسمها النصيب كله. ليت السجل المدني حجب اسمها كما حجب فريق نابولي رقم مارادونا. تلوّح فاتن في الصورة ومع ذلك تبدو كأنها تومئ. هذه الفصيلة من المخبوزات كل حركاتها إيماءات. عندما نحضنها تضيع في الحضن كما يضيع الناس في الغابات. ندعو الأصدقاء والجيران للبحث عنها. نحمل الكشافات ونصرخ باسمها حتى نعثر عليها بعد ساعات نائمة تحت القفص الصدري.

تحسست الجمال أول مرة حين رأيت نجمات السينما المصرية. كانت كل نجمة منهن تضيء الفيلم الأسود والأبيض حتى يتلوَن. كنت ولداً حينذاك، لم تحمل كتفاه الأعباء بعد ولا السيقان. دخلن حياتي دخول الأكورديون على الخصر الساهي. نشرن غاز الأرق اللذيذ.

كانت فاتن حمامة جارتي التي ترسلني لشراء الخضروات والفواكه. ما كانت ترسلني لشراء الحلوى وقد علمت أنهم في أمريكا اللاتينية يقصدون بذلك إرسال الطفل إلى المبغى ليخوض تجربته الأولى. كان والد ماركيز قد بعث ولده هناك. كلما طبخت فاتن بعثت لي من طبيخها. كل أواني مطبخي اليوم هي في الأصل لفاتن. كانت تقرضني أيضاً بعض المال مع علمها أنني لن أرده لها وإن استطعت، إذ كنت حينها أقيم الليل كله في الحانات، والإقامة هناك مكلفة بعض الشيء. كانت فاتن حمامة الصباح الذي لا يفوتني مهما تأخرت في الاستيقاظ.

فاتن حمامة

أما تحية كاريوكا فلا يمكن وصفها بغير افتتاحية (ذهب مع الريح). “لم تكن تحية كاريوكا بالمرأة الجميلة، ولكن قلما كان الرجال يدركون ذلك”. ولما كنت ممن أدرك ذلك انصرفت إلى هند رستم. وهند منذ قرون لا تنجز ما تعد، وليس لأحد عليها سلطان فما بالك بهند رستم؟ حتى عاشور الناجي يجبن أمامها.

مريم فخر الدين؟ لقد كانت صورة الملاك عندي، والملائكة في ذلك الوقت لم تكن تُمس، ولما كنت من برج العذراء فما كنت لألمسها في خيالي حتى ولو ثبت أنها من سلالة آدم. يهدر مواليد العذراء زمناً في خيالات أفلاطونية ويتأخرون طويلاً في الخروج إلى ميادين الجسد. هكذا تقول الأفلاك، وتجربتي الشخصية. على أن مريم فخر الدين لم تكن ملاكاً من الداخل. سأشاهد لاحقاً إحدى لقاءاتها التلفزيونية فيتحطم تمثالها.

أما ماجدة فما كانت تطيقني، وما كنت أطيقها. تباغضنا من النظرة الأولى. كل نظرة في عينيها الباردتين تتهكم في غرور:” من أنت؟” فترد نظراتي: “ومن أنتِ حتى تقولي من أنت؟”. ولما كان لا بد لكل عاشق من عذول واحد على الأقل كانت ماجدة. ما زلت أعتقد أنها وراء فشل كل غرامياتي العظيمة.

فاتن حمامة وماجدة
فاتن حمامة وماجدة

كلما ظهرت شويكار على الشاشة انقلب التلفاز فرناً حتى بات من الممكن أن نخبز عليه. ومع ذلك، ما كنت لأنظر إليها في اشتهاء وقد كانت حرم الأستاذ فؤاد المهندس. إنما يعترض اللص بالسطو على القضاء والقدر، وكذلك يفعل أحدنا حين ينظر إلى امرأة غيره. لا يخلو الأمر بطبيعة الحال من العتاب، ولا بأس في ذلك. سلوا قلبي أو قلب المرحوم شوقي “لعل على الجمال له عتابا”.

صاحبت شادية وصاحبتني في الحلوة والمرة. في الحقيقة كنا أكثر من أصحاب، وكان النصيب على بعد دبلة، ولشرائها يتعين الذهاب إلى الغورية أو رفع صوتي بأغنية قنديل: “يا رايحين الغورية، هاتوا لحبيبي هدية”. لكن شادية ضبطتني ذات يوم أقبّل ماجدة. نعم ماجدة. ماجدة نفسها. من كان منكم بلا خطيئة؟

فاتن حمامة وشادية
فاتن حمامة وشادية

ثم كانت سعاد، لولا أن كل رجل في الشارع كان حبيبها. “حبيبها، لست وحدك حبيبها”. كان المجنون رامي يرى فضيلة صغيرةً للشك حين كتب “الشك يحيي الغرام”، وحجته فيما أعتقد أن المرء ما إن يستشعر فقدان عزيز حتى يقبل عليه. لو كان عطيل حياً لقتل رامي. مات الاثنان ولا تجوز على الأموات إلا الرحمة. كدت أقتل من شكوكي سعاد كما فعل عطيل بديدمونة التي كانت تغني أغنية الصفصاف قبيل موتها. تراها كانت تفضّل لحن فيردي أم روسيني؟ راح عطيل يُذكِرها بالصلاة وقد عزم على قتلها. قبّلها مرة واثنتين وثلاث. لقد أحبها الشقي حقا، بل وغفر لها لكن سيخنقها بيديه تحسباً للمستقبل. كان قتلها بالسيف أهون وهو الضابط بيد أن الشك بلغ منه كل مبلغ حتى آثر أن يخرج روجها بيديه، ويشهد شحوبها شيئاً فشيئاً حتى تستحيل إلى قطعة رخام. كنت وصلت مطار هيثرو لأفعل مثله لولا أن سعاد انتحرت -أو قُتِلت- وتركتني.

كبرت بعدها ونضجت، وتوقفت عن التخيل نزولاً عند رغبة ميرفت أمين. كان ذلك شرطها الوحيد للزواج.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock