برغم كل خطابات اللجنة الأولمبية الدولية بشأن وقوفها على مسافة واحدة من الجميع، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والعرقية، أثبتت الألعاب الأولمبية خضوعها الكامل منذ فترة طويلة للعامل السياسي، سواء كان ذلك سرا أو علنا، وسواء فيما يتعلق بالألعاب بصورة إجمالية، أو ـ في كثير من الأحيان ـ فيما يتعلق بالرياضيين الذين يعتزمون إضفاء مسحة سعادة وتسرية على وجه العالم عبر استعراض عالمي يقام على مدى أسبوعين.
وتقدم المشكلات الدبلوماسية التي تحدث اثناء هذا النوع من المنافسات نموذجا على ذلك، حيث حضر مئات الرياضيين إلى بطولات الألعاب الأولمبية المختلفة ولم يعودوا بعدها إلى أوطانهم التي مثلوها في المسبح، أو على البساط، أو في المضمار.
وتؤكد قصصهم منذ عام 1948، عندما تم استئناف الألعاب الأولمبية في لندن بعد التوقف في زمن الحرب، أنه حينما يلتقي العالم من أجل الرياضة، فإن السياسة تكون حاضرة دائما وبقوة.
ومؤخرا، لم تخرج العداءة البيلاروسية، كريستسينا تسيمانوسكايا، التي غادرت طوكيو مبكرا يوم الأربعاء 4 أغسطس بحثا عن ملاذ، عن هذا “التقليد الأولمبي العريق”، وإن جاء هذه المرة لسبب فريد من نوعه.
كان معظم الرياضيين الذين انشقوا عن بعثات بلادهم يتنافسون تحت شكل من أشكال “رايات المواءمة”، حيث سافروا إلى دورات الألعاب الصيفية من أوربا الشرقية مضمرين نية التوجه إلى الغرب، باعتبار أن هذه البطولات تقدم لهم فرصة ربما لا تعوض للهروب من جحيم الأنظمة السلطوية في أوطانهم إلى جنة الديمقراطيات الغربية، ولم يكن ذلك في أي وقت سوى في ذروة زمن الحرب الباردة.
فبعد دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ في عام 1972، لم يبرح أكثر من 100 رياضي ألمانيا الغربية بحثا عن ملاذ آمن والانتقال للعيش في بلاد ديمقراطية قبل أي شيء آخر. وقدم الرياضيون الذين نجحت خططهم أسبابا مختلفة تراوحت بين الأيديولوجيا السياسية والرغبة في حياة أكثر سلمية، أو، ببساطة، العثور على فرصة لتحقيق ذواتهم والتعبير عن قيمتهم الحقيقية كرياضيين.
لم يكن لدى تسيمانوسكايا أي خطط للهرب لدى وصولها إلى طوكيو من بيلاروسيا، تلك الدولة التي تعصف بها الاضطرابات منذ عام عندما أعيد انتخاب الرئيس السلطوي ألكسندر لوكاشنكو على نحو أثار الكثير من الجدل.
وكانت تسيمانوسكايا اختلفت مع مدربيها حول اختيار عناصر فريق سباقات التتابع، ونشرت أفكارها على وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعلها منبوذة في بلد يمكن أن يدفع فيها المرء حياته ثمنا لمعارضته.
بكل الأحوال، غادرت تسيمانوسكايا بعد أن كتبت صفحتها الخاصة في التاريخ الأولمبي. ومع قرب ختام بطولة الألعاب الأولمبية في طوكيو، تستعرض هذه السطور بعضا من الرياضيين الآخرون الذين علقوا في شرك هذا التقاطع بين الرياضة والدبلوماسية.
لندن، 1948 (وما بعدها)
كان لدى أوسكار تشارلز دورا بارزا في ثلاث بطولات متتالية للألعاب الصيفية، وتحديدا في منافسات كرة الماء.
ولد أوسكار تسوفيك في المجر، وساعد المنتخب القومي لبلاده في الحصول على ميدالية فضية في لندن 1948، حيث انشق هذه المرة عن بعثة بلاده طلبا للعيش في بريطانيا بعيدا عن العودة إلى الحكم الشيوعي في بلده. وبعد عامين، هاجر تشارلز إلى أستراليا، حيث تولى تدريب منتخبها الوطني في أولمبياد هلنسكي 1952.
وفي عام 1956، حطت الشعلة الأولمبية رحالها في أستراليا، وجاء الافتتاح في ملبورن بعد ثلاثة أسابيع فقط من غزو القوات السوفيتية للمجر لسحق انتفاضتها الشعبية. وعمل تشارلز هناك كمعلق إذاعي، وكان بجانب المسبح في مباراة كرة الماء الشهيرة التي أطلق عليها “دماء في المياه” التي فاز فيها المجريون على السوفيت بنتيجة 4ـ0 بعد اشتباك عنيف.
ووفقا للنعي الذي نشر في إحدى الصحف الأسترالية لدى وفاته في عام 2008، “تم منع تشارلز في اللحظة الأخيرة من القفز في المسبح”.
ملبورن 1956
أقيمت أولمبياد ملبورن في النصف الجنوبي من العالم في 22 نوفمبر 1956. وأرسلت المجر أكثر من 100 رياضي في وقت كانت الاضطرابات تعصف بالبلاد بعد الغزو السوفيتي. وكان من بين قائمة المنافسين المجريين لاعبة الجمباز أغنيس كيليتي، التي فازت بميداليتين ذهبيتين، وميداليتين فضيتين، لتحاول بعد ذلك البقاء في أستراليا.
كانت كيليتي ضمن عشرات من رياضي أوربا الشرقية الذين رفضوا العودة إلى بلادهم. وسمحت الولايات المتحدة باستقبال 40 رياضيا أولمبيا على الأقل، من بينهم 35 لاعبا من البعثة المجرية التي شاركت في ملبورن.
وذهبت كيليتي إلى إسرائيل، حيث عاشت هناك حتى ست سنوات خلت قبل أن تعود إلى المجر حيث تعيش الآن. وفي يناير الماضي، أتمت كيليتي عامها المائة لتكون بذلك أكبر بطلة أولمبية على قيد الحياة.
أتلانتا 1996
كان الانشقاق من داخل الولايات المتحدة يتمتع بجاذبية خاصة لكثير من الحالمين بالديمقراطية الغربية، وهي الفرصة التي قدمتها دورة الألعاب الأولمبية في أتلانتا 1996 على طبق من ذهب.
وقدم رائد أحمد الذي رفع علم العراق في حفل الافتتاح نموذجا لذلك، حيث لاذ بالفرار من القرية الأولمبية في أعقاب منافسات رفع الأثقال. لم يكن البطل العراقي يريد سوى الفرار من نظام صدام حسين.
لندن 2012
كانت أيوبة علي سيهيم السباحة الوحيدة التي مثلت جزيرة القمر الإفريقية في لندن، وكانت عندئذ في السابعة عشر من عمرها عندما غادرت القرية الأولمبية بعد أن نفاست في مسابقة “100 متر سباحة حرة”.
وفي وقت لاحق، قالت أيوبة إنها خشيت أن تعود إلى بلدها، فتجبرها أسرتها على الزواج من رجل يكبرها في العمر بسنوات عديدة. وأكدت أن أسرتها كانت تريد أن “تستثمر” في شهرتها الأولمبية.
ظهرت هذه التفاصيل في محكمة إنجليزية في عام 2013، حيث تم إدانة أيوبة باستخدام جواز سفر مزيف في محاولة للدخول إلى فرنسا. وقال محاميها إنها ستطلب اللجوء بعد قضاء فترة العقوبة في السجن، لأنها لم تكن تعرف أن بإمكانها تقديم طلب قانوني لهذا الغرض أثناء مشاركتها في الأولمبياد.
كما اختفى أثناء هذه البطولة أيضا العديد من الرياضيين الأفارقة في بريطانيا رغم أن تأشيراتهم الأولمبية كانت تمتد لستة أشهر فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص لأصلي باللغة الإنجليزية من هنا