فى 27 يوليو عام 1941 ولد “أسامة أنور عكاشة ” بمحافظة كفر الشيخ ، وكانت مصر في تلك اللحظة تنتظر بشغف وقلق انتهاء الحرب العالمية الثانية لتنفذ بريطانيا وعدها بمنح مصر استقلالها وكان الاستقطاب قد بلغ ذروته بين فريق يدعم بريطانيا العظمى أملا في الاستقلال التام وفريق آخر يعلن دعمه للزعيم الألماني “أدولف هتلر ” أو كما أطلق عليه العوام في مصر “الحاج محمد هتلر “
فى تلك المرحلة المبكرة من حياة الطفل اسامة انور عكاشة كان “نجيب محفوظ ” هو جبرتي الرواية الذي يرصد حياة المصريين وتطورها ويشرح بقلمه كل التفاصيل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكان الصغير “أسامة ” مولعاً بالأستاذ الكبير.
خلال فترة التكوين وبدايات نشأة علاقته بالكتابة اقترب “اسامة ” من القصة القصيرة والمسرحية ذات الفصل الواحد. لم يكن يدرك أنه يستعد ليصبح “أبو الدراما التلفزيونية ” وبالطبع فقد ساهمت بدايته الأدبية وقراءاته الواسعة للأدب العالمي والمصري فى تشكيل وعيه وتنمية خياله وتمكنه من بناء الشخصيات بشكل مميز.
لم يكن عكاشة مجرد كاتب يقدم حكايات درامية للتسلية والمتعة فقط فهو صاحب الرؤية والفيلسوف والمصلح الاجتماعي والواعظ والمحلل وغير ذلك الكثير
لكنه قبل هذا وبعده هو تلميذ مخلص لنجيب محفوظ في التحليل والرصد التاريخي وليصبح “عكاشة ” رائدا لفن “الأدب التلفزيوني ” على حد وصف الناقد الراحل “عبد القادر القط “
حملت أعمال “عكاشة ” مشروعا ثقافيا مستنيرا وانحيازا واضحا للغالبية العظمى من المصريين البسطاء وانشغل خلال مسيرته بطرح السؤال الملغز ويقترب من المنطقة الشائكة التي تتعلق بالهوية المصرية .. من نحن؟
كان هذا السؤال حاضرا في معظم أعماله “أرابيسك ” والراية البيضا ” و” زيزينيا ” وغيرها من الأعمال.
عكاشة وأبطاله
كان اسامة من الكتاب الذين تربطهم علاقة مدهشة مع أبطال أعماله فتجده صديقا لحسن النعماني وزميلا لعلى البدري وعلى تواصل مع أبو العلا البشرى وغيرهم .
هؤلاء الرجال – أبطال اعماله – الذين تحولوا إلى جزء من حياتنا وأصبحوا شخصيات من لحم ودم – يسيرون بيننا .. لا لشيء سوى لأن الكاتب استلهمهم من حياتنا وقدمهم مثلنا تماما .. بشرا يصيبون ويخطئون فغابت تلك الصفة الملائكية التي سيطرت على أبطال الأعمال الدرامية قبل “أسامة أنور عكاشة “
جاء أبطال أسامة – من الرجال والنساء – يشبهون أناسا نقابلهم في الحياة بكل ما بهم من انكسارات واحباطات ولحظات قوة وانتصار لكنهم في النهاية مأزومون مثلنا وكأنهم تعبير عن واقعنا المرتبك وأحلامنا الضائعة وخيوطنا المتداخلة والمتشابكة
هكذا صنع “اسامة ” أبطاله ” عبر نصف قرن من الكتابة ..وعندما نقترب من هؤلاء الأبطال نجد روح “دون كيخوت “حاضرة بقوة فى بعض الشخصيات ونجد “أسامة”ذاته حاضرا فى شخصيات أخرى وكأنه اختار لمشروعه هذا البطل الذى يحارب طواحين الهواء.
أبو العلا البشرى …. ” دون كيخوت ” المصري
في عام 1986 كان المشاهد العربي على موعد مع رحلة السيد أبو العلا البشرى مهندس الري الذى قضى حياته يتابع بدقة لا تقبل الخلل منسوب النيل فى رحلته بقرى مصر. تلك المهنة التى أكسبته صفات من أهمهما الانضباط الشديد والذى بدونه يغرق العالم ويعم الخراب ربوع الوادي
كان “أبو العلا البشرى ” قد أنهى فترة عمله فى الحكومة وبلغ سن التقاعد وكانت آخر مهمة حكومية له في إحدى قرى كفر الشيخ فجلس يتفقد مكتبته فى استراحته – محل إقامته الحكومية – لتقع يده على كتاب ” دون كيخوت. محارب طواحين الهواء “
يقرر “البشرى ” أن ينهى سنوات عزلته التي قضاها بين العمل والقراءة ويقرر العودة إلى القاهرة يعيد ترتيب العالم على الوجه الأمثل ويبدأ رحلة عبثية لتحقيق هذا الغرض النبيل في مجتمع هو ليس كذلك.
فقد مرت بالنهر مياه كثيرة منذ أن تركه حتى عاد إليه وبدا البشرى كأنه عائد من كوكب آخر فقد أصيب المجتمع بالكثير من الآفات وتبدلت أحواله وتغيرت معاييره
إلا أن “البشرى ” ظل متمسكا بما يعتقد أنه صحيح ليواجَه بقدر كبير من الرفض من جانب أسرته القديمة التي إعتبرت محاولاته تدخلا سافرا فى شئونهم فرفضوا هذا – التطفل – بما فيهم حبه القديم “زينات ” التي أقدمت على طرده بعد أن تدخل رافضا رغبتها فى تزويج ابنتها لثرى يكبرها في العمر بكثير
لكن التحول الدرامي كان عندما هبطت على أبو العلا ثروة بسبب دخول أرضه كوردون المباني مما جعل قيمتها تتضاعف ليصبح مليونيرا فتتغير الأمور ويسعى الجميع للاستفادة من ثروة هذا النبيل الحالم.
ما يسبب له كثيرا من الأزمات بسبب قيام أفراد عائلته بخداعه والتغرير به بدعوى الفضيلة وبحجة اقامة مشروعات تساعد الفقراء وترفع المعاناة عن المحتاجين ليتماهى البشرى بكل براءة مع أفكارهم الخبيثة التي لا هدف منها سوى استغلال نُبل البشرى ومساعيه المتواصلة نحو المدينة الفاضلة التي قرأ عنها في الكتب ..
خلال رحلة “أبو العلا البشرى” الذى حَمل سيف الفضيلة لمحاربة التحولات التي طرأت على الشخصية المصرية وحولت معظم المحيطين به إلى مسخ يبحثون فقط عن الربح حتى وأن على حساب أى قيمة نبيلة .. رصد لنا كيف صارت الشخصية المصرية وإلى أى مدى أثرت العوامل الاقتصادية والسياسية في تشويه المجتمع والإنسان .. لقد فقد المجتمع قدرته على تلقى الفن الجيد وارتبكت معاييره واختلت .. هكذا أراد “أسامة ” أن يكشف ورقة التوت التي تخبئ عوراتنا من خلال ذلك المحارب الذى يشبه فرسان العصور الوسطى.
حسن النعماني .. وسؤال الهوية
فى عام 1994 واصل “اسامة طرح سؤاله الملح والدائم وأمسك بمشرط المحلل وامتلك وعى المفكر كي يباغتنا دائما بنفس السؤال ” من نحن؟
أنه سؤال الهوية الذي يطاره خلال رحلته ولا يتوانى في الدفع به على طاولتنا لكى يطاردنا نحن أيضا فعكاشة لا يعرف نموذج الدراما البليدة التي يكتفى المشاهد خلالها بدور المتلقي دونما إعمال عقله فى تفسير أطروحات صناع العمل
واختار “أسامة ” أن يكون السؤال هذه المرة على لسان “حسن فتح الله النعماني ” نجار الأرابيسك أو إن شئت فقل إنه فنان الأرابيسك – ذلك الفن العربي الأصيل الذى تتداخل فيه قطع الخشب لتُشكل فى النهاية لوحة فنية مبهرة
هكذا كان “حسن ” ابن البلد الجدع والفنان الموهوب ..هو أيضا ذلك المتهور المنفلت ” المزاجنجى ” الذى يفعل ما” يطق” فى راسه كما يقول المصريون .
أهمل مهنة أجداده وهرب من أزماته إلى دخان الحشيش بحثا عن عالم من الأساطير بعد أن أرهقه واقع كان قاسيا عليه فتجاهل مواجهته وهرب نحو الكيف.
هو فعليا – كبير الحارة الشعبية التي يسكن بها – وحَلَّال عقدها ومشاكلها يدرك بوعى فطرى طبيعة كل من حوله صريح إلى حد الوقاحة أحيانا ولا يتردد فى قول الحق مهما كان .
تمتلئ الحارة المصرية بشخصيات تشبه “حسن النعماني ” بكل تناقضاتها فالبشر لا يعرفون هؤلاء الذين ليس لهم خطايا أو لحظات ضعف أو نزوات بشرية هكذا كان حسن النعماني .
تنطلق موهبته المدفونة فى لحظات التجلي فيخرج منه أروع ما يمكن ثم يعود إلى حالة السكون وكأنه ينتظر الفرصة ويترقب لحظة أخرى لينطلق من جديد
هو مشروع الوطن الذي يبحث عن لحظة لكي تنطلق قدراته فقط تتاح له الفرصة
عندما جاء إليه الدكتور “برهان صدقي ” وزوجته الدكتورة ممتاز في ورشته لينفذ لهما النعماني مشروع تطوير الفيلا الخاصة بهم وكان المخطط أن ينفذ “أرابيسك ” تصور المهندس المسئول “شريف ظاظا “وهو أن يبنى فى الفيلا عدة زوايا وأركان تمثل تاريخ مصر ومراحله من الفرعوني إلى الإسلامي.
واستجاب “أرابيسك ” لكنه فى نهاية المطاف اكتشف استحالة تنفيذ هذا ويأتي الزلزال ويظن الجميع أنه تسبب فى هدم الفيلا – مصر – ويطرح حسن النعماني سؤال الهوية قائلا ” سواء أنا أو الزلازل أو التوابع هو السبب متفرقش لان ده مينفعش .. السَلَطة متنفعش .. البظرميط مينفعش .. وبعدين الفن اللي بجد ما هواش طبيخ .. الراجل جه وقال عايزين نعمل تحفه ترمز للتاريخ كله …حلو؟
بس تاريخ مصر كبيرأوي … طويل قوى .. يبقى نعمل ايه؟ هل نديله فرعوني على قبطي على روماني على يوناني على عربي .. ؟
مينفعش طبعا لأن الذوق غير الذوق والطعم غير الطعم واللون غير اللون
يبقى ممكن نعمل ايه ..ما دام تاريخ مصر كبير أوى كدة يبقى لازم نعرف تاريخنا وأما نعرف تاريخنا ولما نعرف مصر كانت امتى مصر بذات نفسها هنعرف احنا مين ولما نعرف إحنا مين هنعرف إحنا عايزين إيه . “
“لازم نعرف احنا وعايزين ايه ”
ليخرج صوت الدرويش مرددا “حسن طالع .. حسن راجع .. حسن جاي “
هكذا كان السؤال الشائك والدائم الذي طرحه “حسن أرابيسك “… سؤال الهوية … وهكذا كان المبدع الحقيقي أسامة أنو عكاشة مهموما بمصر وناسها وقضاياها وتاريخها .
اقرأ أيضًا:
دون كيشوت المصري من الشاويش طلبة لعم عصفور
أسامة أنور عكاشة: ماله وماعليه.. مراجعة منهجية لاتهامات فنية وفكرية