ثقافة

مشاعل إسلامية (5): الحسن البصري.. و”رسالة القدر”

ضمن أهم العلامات المؤثرة في تاريخ الفكر الإسلامي، يأتي الحسن البصري (21 – 110 هـ/ 642 – 728 م) ليمثل أقرب الشخصيات التي يمكن اعتبارها، خلافًا لما يراه الكثيرون، الأساس في نشأة “الاعتزال”. إذ كان “الحسن” أستاذا لكل من “واصل بن عطاء” و”عمرو بن عبيد” مؤسسي المذهب الاعتزالي باتفاق المصادر القديمة.

وينتمي “الحسن البصري” من حيث الأصول الاجتماعية إلى قطاع الموالي؛ فهو من “أهل ميسان” مولى لبعض الأنصار “وكان اسم أمه “خيرة” مملوكة لـ”أم سلمة” زوج النبي –عليه الصلاة والسلام– وذلك كما يشير “الشريف المرتضى” (علي بن الحسين) في كتابه “الآمالي”. ومن ثم كان طبيعيًا أن يكون “الحسن” –بكل تقواه وورعه– ناقمًا على بعض بني أمية ومظالمهم.

وإذا كان عداء الأمويين موجهًا ضد الخوارج والشيعة ومن حمل السلاح في وجوههم، فقد كان من الطبيعي أن يلجأ “الحسن البصري” إلى “التقية” خاصة حين بلغت سطوة الأمويين على العراق أشدها في عصر “عبد الملك بن مروان” وبالتحديد حين وُليَ “الحجاج بن يوسف” عليها. رغم ذلك، لم يستطع الأتقياء من أمثال “الحسن” الاستمرار على ما هم عليه من سلبية.

الأمالي - الشريف المرتضى

صياغة مبدأ “القدر”

ولما كان بنو أمية يرفعون القول بـ”الجبر” لذا، لم يتردد الحسن في تبني القول بـ”القدر” على مذهب معاصره “معبد الجهني”. وليس من المستبعد أن يكون الحسن قد عدَّلَ قليلًا من قول معاصره، الذي ذهب إلى أن “القدر” خيره وشره من العبد، كما تحكي عنه كتب المقالات. ولعل هذا التعديل الذي أجراه “الحسن” على قول “معبد الجهني” يبدو بوضوح من خلال قوله “كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي”.

وفي ما يبدو، فإن هذه الصياغة لمبدأ القدر، في الوقت التي تنفي عن الله فعل الشر، وتُثبت قٌدرة العبد عليه؛ فإنها في الوقت نفسه تجعله مقبولا لدى أتقياء المسلمين، خصوصًا في تلك المرحلة، لأنها رفعت عنه الحرج الذي يؤدي إلى إيهام أنه يتناقض مع الإيمان الحق. كما أنها أيضًا تُثبت مبدأ الثواب والعقاب الذي يُعد ركنًا أساسيًا في العقيدة الدينية، ذلك المبدأ الذي لا ينفي مسئولية الإنسان عن فعله.

ويؤكد “الحسن” مبدأه كاشفًا عن مراميه كما يذكر “الشريف مرتضى” في كتابه “الآمالي” حيث يقول “من زعم أن المعاصي من الله عزّ وجل جاء يوم  القيامة مسودًا وجهه، ثم قرأ قوله سبحانه “وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ…” [الزمر: 60]…”.

 هذه الصياغة لمبدأ “القدر” التي اعتمدها الحسن البصري – لم تكن فقط كافية في الرد على بني أمية، عبر نفي فعل الشر عن الله سبحانه وإثبات قدرة العبد عليه، ولم تكن فحسب كافية لتجعل المبدأ مقبولا لدى أتقياء المسلمون، لأنها رفعت عنه الحرج السابق الذي يؤدي إلى إيهام أنه يتناقض مع الإيمان؛ ولكنها إضافة إلى هذا وذاك، ساعدت على تثبيت مبدأ “الثواب والعقاب” الذي يعد ركنا أساسيا في العقيدة الدينية، ذلك المبدأ الذي يخل به القول بالجبر، الذي تبناه بنو أمية لتبرير كل أفعالهم في الحكم.

الحسن البصري

اختلاف.. الجبر والقدر

وتعد رسالة الحسن البصري في القدر هي أقدم ما تحت أيدينا من وثائق حول ذلك الخلاف العقائدي، وما ارتبط به من تأويل بهدف إثبات فكرة معينة، هي مسئولية الإنسان عن فعله، ونفي مسئولية الله –سبحانه– عن أفعال البشر.

ويعد كل من منهج الرسالة وأسلوبها الجدلي، بذورًا طبيعية لنهج الفكر الاعتزالي وأسلوبه حتى عصر القاضي “عبد الجبار” وينكر “الشهرستاني” نسبة هذه الرسالة إلى “الحسن البصري” وينسبها إلى “واصل ابن عطاء” ولكن هذا القول ينكره “ابن قتيبة” الذي ينسب الرسالة للحسن.

وتبدو أهمية الرسالة في ما تثيره من اعتراض على “عبد الملك بن مروان” فالرسالة رد على تساؤل من هذا الأخير، كان قد وجهه لـ “الحسن” حول ما بلغه عنه من أنه يقول بالقدر. إذ لم يكن “عبد الملك” بالساذج حتى يفعل بالحسن ما فعله بـ”معبد الجهني” فـ”الحسن” بما عُرف عنه من الزهد والتقوى والورع؛ قد يثير إيذاؤه سخط العامة.

ولذا لجأ “عبد الملك” مع “الحسن” إلى أسلوب النقاش؛ وذلك عبر سؤاله عن القدر، ورؤية “الحسن” له ودلائله على مثل هذه الرؤية؛ زاعما أنه لم يسمع “في هذا الكلام مجادلًا ولا ناطقًا” قبله. وهو ما يعني ـ بحسب رسالة “ابن مروان” أن القول بحرية الإرادة والمسئولية بدعة. والأهم أن رسالة “عبد الملك” هذه، تؤكد أن انتماء “الحسن” إلى صفوف القائلين بالقدر، كان قد سبب القلق للخليفة الأموي، ودفعه إلى تلك التساؤلات حول أصل هذا الرأي ومنشئه في القرآن أو السنَّة أو آراء السلف الصالح.

وجاءت رسالة “الحسن” بمثابة ردٍ على تساؤلات “عبد الملك بن مروان” وفي معرض الإجابة لم يكن صعبًا على “الحسن” أن يستشهد بالقرآن الكريم على صحة مذهبه، ففي القرآن آيات كثيرة تُحمَل الإنسان مسئولية أفعاله. وكان مما جاء في رسالة “الحسن”: “إنما أحدثنا الكلام فيه أي القدر؛ من حيث أحدث الناس “النُّكرة” له، فلما أحدث المحدثون الكلام في دينهم ما أحدثوا، أحدث الله للمتمسكين بكتابه ما يبطلون به المحدثات ويحذرون به من المهلكات”.

وهو، في هذا الرد، يتهم معاصريه بأنهم أحدثوا ـ بالقول بـ”الجبر” ـ قولًا لم يقل به أحد من السلف الصالح، فكان عليه أن يتصدى لهم.

الحسن البصري

مسئولية.. الفعل الإنساني

هنا لا نغالي إذا قلنا إن القول بالقدر، وبمسؤولية الإنسان عن أفعاله، كان السلاح الفكري ضد قول بنو أمية بالجبر. ولقد رفع لواء هذا المبدأ مفكرون دفعوا حياتهم ثمنًا له (ما هو جدير بالملاحظة هنا أن متأخري الصحابة والتابعين لم يقولوا بهذا المبدأ (القدر) لما يوهمه من انتقاص للقدرة الإلهية).

ولم يكن القول بهذا المبدأ ليتم، إلا عندما عَدَّلَ الحسن البصري من صياغته، بما يجعله يتلاءم مع الإيمان المطلق بقدرة الله ومشيئته اللانهائية، ويجعله في الوقت نفسه ملائمًا مع مبدأ “الثواب والعقاب” الذي يعد ركنًا أساسيًا في العقيدة الإسلامية.

يأتي هذا، رغم أن كثيرًا من الصوفية يدعون أن “الحسن البصري” أول المتصوفين، ورائد التصوف. إلا أن الواقع يؤكد أن “الحسن” لم يكن في مسلكه، ولا في تفكيره، يزيد عن كونه أحد زهاد عصره من حيث طابع زهده ومحتواه؛ بل يمكن القول إنه كان من معتدلي هؤلاء الزهاد مسلكيًا، لأنه لم يُبالغ في العزلة. وهو القائل: “مثقال ذرة من الورع السالم، خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة”، بحسب ما ذكر “عبد الكريم بن هوزان القشيري” صاحب “الرسالة القشيرية”.

ورغم بساطة هذه الكلمة في دلالتها الإسلامية التقليدية، يتمسك الصوفية المتأخرون بها، دليلا على كون الحسن البصري منهم أو رائدهم؛ والحقيقة أن المسلمين المؤمنين البسطاء يقولون بما قاله  “الحسن” وكذلك أئمة “أهل السنة” والفقهاء منهم بخاصة، رغم مخالفتهم الصريحة للتصوف والمتصوفين.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock