أرسل لي صديق عزيز سؤالا لامس في نفسي شيئا لأنه يتعلق بالمرأة واللغة. أما الصديق فهو الأستاذ محمد الدسوقي، وهو إلى جانب دفاعه عن المرأة فهو مدافع عن اللغة، وهو معلم بارع لها، وباحث نهم.
أما السؤال فهو:
لماذا نقول في قواعد العربية “نون النسوة” ولا نقول “نون التأنيث”؟
من يشكو من ظلم اللغة للمرأة لا يعرف أن اللغة من هذا الظلم براء، فالملوم الحقيقي هو المجتمع. واللغة العربية من بين لغات قلائل، ما زالت تحافظ على التفريق في قواعدها بين المذكر والمؤنث. إذ تَلحَقُ الفعلَ فيها ضمائرُ للمؤنث، مثلُ “نون النسوة”، وضمائرُ للمذكر، مثلُ “واو الجماعة”.
ولا عنصرية في مصطلح “نون النسوة”، كما يشتكي بعض الناس، ففي العربية يقابل نونَ النسوة واوُ الجماعة للرجال.
لكن تعالوا نفكر معا لماذا أُطلِق مصطلح نون النسوة على هذا الحرف، الذي يلحق بالفعل المضارع، في مثلِ:
* (الطبيباتُ يُجرين عمليةً جراحيةً)، وبالفعل الماضي، في مثلِ:
* (المتظاهراتُ تَجمعن أمام السفارة)، وبفعلِ الأمر، في مثلِ:
* (قالتِ المديرةُ للعاملات آمرةً: عُدنَ إلى عملِكن؟)
ماذا يقول النحاة؟
أعود إلى السؤال، وهنا أبشر السائل، بأن المصطلح الذي اقترحه، وهو ”نون الإناث“، مصطلحٌ مستخدَمٌ بالفعل، واقترحه ابن مالك صاحب الألفية المشهورة في النحو، (المتوفى في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي).
لكن النحاة في الماضي لم يتفقوا على مصطلح واحد – وهذا ما يؤكده الدكتور عمر بابعير، الأستاذ في جامعة حضرموت في اليمن، في بحثه القيم عن ”نون النسوة“.
فسيبويه (المتوفى في القرن الثاني الهجري) يسميها “نون النساء”، ويسمي الفعل المسند إليها فعل “جميع النساء”.
وأما الفراء (المتوفى في أوائل القرن الثالث الهجري) فاستعمل مصطلح “النسوة”، بدلا من “النساء”، وسمى الفعل المتصل بها بـ”فعل النسوة”.
لكن المبرد (المتوفى في القرن الثالث الهجري) يسميها نون “جماعة النساء”.
وسماها ابن السراج (المتوفى في أوائل القرن الرابع الهجري) بأكثرَ من اسم، “ضمير الجماعة”، و”ضميرِ الفاعلات”، و”ضميرِ جماعة المؤنث”، و”ضميرِ النساء”.
ويسميها الزمخشري (المتوفي في القرن السادس الهجري) “نون جماعة المؤنث”، وتبعه في ذلك ابن يعيش (المتوفي في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي) في شرح المفصل.
وقارن الخضري (المتوفي في القرن الثالث عشر الهجري) في حاشيته على ألفية ابن مالك بين ”نون الإناث“، و”نون النسوة“، فيقول ”نون الإناث أولى من نون النسوة، لأن هذه تشمل غير العاقل“.
وتبعَ ابنَ مالك كثيرٌ من النحويين بعدَهُ، مثلُ أبي حيان وابنِ هشام، وابنِ عقيل شارح الألفية.
لكن ما استقرت عليه الدراسات النحوية الحديثة هو “نون النسوة”. ويقول دكتور بابعير إن هذا من باب التغليب، وهو أيضا من باب التشريف والتكريم للنساء.
وهناك فرق ألمح إليه السائل بذكاء، بين تعبيري ”نون النسوة“ و“نون الإناث“، وهو ما أشار إليه الخضري في حاشيته على ألفية ابن مالك، وهو أن تلك النون تستخدم مع العاقل وغير العاقل.
ومثال استعمالها مع غير العاقل قول سيدِنا إبراهيم عليه السلام مشيرا إلى الأصنام ”رب إنهن أضللن كثيرا من الناس“. ولذلك فليس دقيقا أن نسميَها نونَ النسوة، لأن النسوة عاقلات، والأولى والأدق أن نسميَها ”نونَ الإناث“، حتي يشملَ ذلك العاقلَ وغيرَ العاقلِ.
وأريد في النهاية أن أشير إلى شيء من حكاية صوت ”النون“ في العربية، لأن اللغة العربية قد تكون لغة “النون” وليست لغة “الضاد”.
فصوتُ النون من أكثر الأصوات شيوعا في العربية. وهذا ما تؤيده دراسات حاسوبية حديثة. منها مثلا دراسة أجريت على مادة بلغ عددُ كلماتها حوالي تسعةِ ملايين كلمة.
وأظهرت تلك الدراسة أن النون هي ثاني أكثر حروف العربية شيوعا بعد الألِفِ. وهذا أيضا ما توصلت إليه دراسة أخرى، أجريت على مادة بلغت كلماتُها خمسة ملايين كلمة. وكان تكرار النون فيها من حيث الشيوع في المرتبة الثالثة بعد الألف واللام.
وهذه هي أيضا نسبة تكرار النون في القرآن الكريم. فهو الحرف الثالث بعد الألف واللام.
ويثير هذا سؤالا بشأن صوت “الضاد”، الذي مازلنا نصف العربية به فنقول: لغة الضاد.
وهذا موضوع بحاجة إلى وقفة في لقاء مقبل إن شاء الله تعالى.