انتشر النهي عن التفلسف في كلام الناس دون وجود حقيقي له.. وربما جاء النهي من باب التحذير من حضور التفلسف بثقله وتقعره.. ما يهدد بانتهاء الحوار وانفضاض المجلس وتفرق الرفاق.. ليس هذا فحسب؛ بل وصل الأمر لدى البعض إلى القول بأن التفلسف رفاهية لا يحتملها الطابع القاسي للحياة المعاصرة.. ما يجعل من التسطيح ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها.. وقد يلزم الأمر بعض “التفاهة” التي صارت بفعل عدة عوامل نظاما كاملا، يشرعن التخلف ويرفض التغيير ويقتل الإبداع ويستهجن التميُّز؛ وفق تعبير الفيلسوف الكندي المعاصر “آلان دونو”.
ولا شك أنَّ “الناس أعداء ما يجهلون” ونحن هنا أمام عهود من التجهيل المتعمد حالت بين الناس وبين ما يعوزهم على وجه الوجوب، وهو التفلسف الذي هو “فعل أصيل ومنظم يحاول من خلاله الإنسان –في مستويات مختلفة– فهم ذاته وفهم العالم المحيط به، فهو إذن ذلك ”النشاط العقلي الواعي الذي يحاول به الناس كشف طبيعة الفكر، وطبيعة الواقع ومعنى التجربة الإنسانية.. فالتفلسف هو نشاط عقلي يجعل الوصول إلى الحقيقة غايته الأسمى، وليس مجرد اجترار لأقوال الفلاسفة ونظرياتهم، فمثلما أنَّ حفظ مئات القصائد الشعرية لا يجعل من الإنسان شاعرا؛ فإنَّ معرفة مختلف المذاهب الفلسفية القديمة والحديثة لا يجعل من المرء فيلسوفا”.
ومازال الاعتقاد السائد بأنَّ التفلسف رفاهية عقلية تأباها متطلبات الواقع، وترفضها ضغوط الحياة بإيقاعها المتسارع- فاعلا بفداحة في مضاعفة الآثار المدمرة لتأزمات الراهن المفضي به إلى وضعية عصية على الخروج من جملة هائلة من الترديات.
إنَّ واقعنا في غيبة التفلسف قد صار مرتهنا عند حدود اللامعقول، حوادثه على شناعتها تمر عبر أسهل الطرق إلى النسيان، مُخَلِّفة مزيدا من العواقب والآثار التي تزيد الأمور صعوبة وتصل بنا إلى القنوط التام.. يقول “ديكارت”: “إنما تقاس حضارة الأمم بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها”.
ونحن نفهم صحة التفلسف في إطار المنهجية غير الموجهة وغير المنصاعة التي لا تنزع نحو التبرير، ولا تتبنى رؤى تسكينية خاضعة لأدوات التضليل؛ أيا كان نوعه ومصدره.
ويرى د.”بومانة محمد” أنَّ “الفلسفة والحضارة كانتا على الدوام متلازمتين، ولازال الأمر كذلك حتى اليوم، خاصة في المجتمعات المتحضرة التي تعتبر الفلسفة بمثابة المشعل الذي ينير لها طريق المستقبل، في حين أن ”المجتمعات التي لا تمتلك فلاسفة على الإطلاق أو تعتبر الفلسفة مُعوِّقا في طريق التقدم، كما هو الشأن في أكثرية بلدان العالم الثالث، هي التي تتعثر أكثر من غيرها في السير، لأنها لا تمتلك المشعل المضيء”.
ونحوَ فهمٍ أقرب لروح التفلسف التي يجب علينا أن نتفهمها على الوجه الصحيح كما يرغب “ديكارت” يذهب “جاك دريدا” إلى أنَّ التفلسف هو” أن تُقدمَ للناس شيئاً من روح تجربتك الخاصة، دون أن تعرف تحديدا ما الذي تعلمته من الفلاسفة ومن الفنانين والأدباء ومن البشر الذين عرفتهم والأحداث التي وجدت نفسك فيها.. فلا يمكن أن تهرب الفلسفة من أسر الجمال أبدا”.
فهذا المرور الميسور للوقائع التي لا تجد رغبة حقيقية في قبضها لتفهمها واستنطاقها وفحص معضلاتها- إنَّما هو مُحصِّلة غياب تلك الروح الباعثة على التفلسف في مجتمعاتنا بفعل عوامل عدة أهمها اتصالها الوثيق بالخبرة العقلية التي هي بالأساس الجزء الأهم في عملية تشكيل الواقع بوصفه مادة خاضعة ومنضبطة، فإذا تنحت الخبرة العقلية عن دورها هذا، فإن نشوء الواقع يصير إلى نحو من التشوه، ومن ثم يصبح مضادا ومؤهلا للتراجع دون توازن، وكلما طال وقت ذلك الانفلات، تمددت تلك البواعث وصارت إلى فوضى مكتملة تؤذن بانهيار كل شيء.
لقد كان الفيلسوف الفرنسي “جيل دولوز” يحلم بأن يكونَ للفلسفة جماهير عريضة مثل: المسرح والسينما والرسم والموسيقى.. لكن “دولوز” لم يكتف بالحلم.. إذ أطلق مع ” فيليكس غوتاري” عام 1972، كتابهما الشهير ” ضد أوديب” وقدَّم فيه مفهوم الفلسفة الشعبية أو “فلسفة البوب” بوصفها وسيلة لتحرير الفلسفة من جديتها ومن شُرطتها “العلميّة” بحيث يكون الكتاب بوابة لتجارب أخرى تتناول الموضوعات، وتكتشفها و”تجرب” ضمنها دون فرض سطوة عليها”.
إن معاداة التفلسف في أي مجتمع لا تعني سوى الاستسلام التام للتضليل، والارتياح للقبول بالحواس لكل ما هو انطباعي ومباشر، وهذا يعني أيضا أن يستسلم العقل، وينتهي عن التفكير؛ فتكف الحركة نحو التقدم ويسود الجمود –ظاهريا– بينما تعتمل في المجتمع عوامل الفناء التي تنداح بضراوة لتغطي كل مساحة تنحسر عنها قدرات التجدد والمواكبة، وكل ذلك لا يحدث بمعزل عن الاستهداف؛ لكنه في مراحله التالية يكون قد اكتسب قدرة خاصة على التدهور السريع وهذا ما لا يحتاج إلى دليل عليه.
إن ذلك الجمود ما يلبث أن يصبح سياجا منيعا ضد كل محاولة للتفكير بوصفها مخاطرة بل فعلا مؤثما؛ يستهدف الثوابت ويناوش المستقرات ويزعزع يقين العامة.. والحقيقة أن التفكير المتفلسف هو سبيل مواجهة كل مصادر التسكين الآخذة بخناق المجتمعات: كالنزعة الدينية والشعور الوطني والحماسة القومية ونحوها، بوصفها عوائق مرهقة لكل محاولة جادة لتفهم الحاضر أو استقرائه، مما يجعلنا أقرب إلى غمط ذواتنا، وطمس كل تفرد فينا انحيازا لثقافة المجموع وقبولا لمجتمع القطيع.
“إذا كانت الأزمة الصحية قد أعادتنا للتساؤل حول أسس مجتمعاتنا، فإن الفلسفة ستساعدنا على المضي بتحفيز التفكير النقدي في المشكلات المطروحة، والتي يدفع بها الوباء لبلوغ ذروتها. وفي الوقت الذي يمكن أن تربكنا فيه راديكالية الاضطرابات الكبرى، تتيح لنا الفلسفة أن نتراجع خطوة إلى الوراء، ونرى بوضوح أكبر».. هذا ما صرحت به “أودري أزولاي” الأمينة العامة لمنظمة اليونيسكو، مؤكدة على أنَّ الفلسفة هي أحد أهم الوسائل لمجابهة الآثار المدمرة لوباء “كورونا”.
فالتفلسف هو فعل مناوشة ومشاغبة ومثاورة للسائد الراكد بانحيازاته الضيقة وخياراته المتكلسة؛ وهذا مما يفسر تحالف عديد من القوى على ما بينها من تباينات ضد التفلسف بوصفه دعوة إلى التأمل والكشف عن المعاني، أو بوصفه فعلا يهب الأفعال المجردة معانيها حسب “لاكروا”.
وتجدر الإشارة إلى أن فعل التفلسف لا يجب أن يكون قاصرا على المشتغلين بالحقل الفلسفي، بل من المتوجب أن يجتذب إليه غالبية أفراد المجتمع من كل المستويات، ليس بوصفه معرفة تتباين قدرة الحصول عليها بتابين الطبقة ومستوى التعليم، بل بوصفه نهجا يتأداه الإنسان يوميا في ممارساته الحياتية؛ ليكون عامله على حفظ حقه، وطريقه المؤدية إلى إدراك كمالاته الإنسانية، وهو في ذلك كمن يجيد إصلاح ما يلزم إصلاحه في منزله دون الحاجة في كل وقت إلى مختص.
إن بعث التفلسف في النفوس من شأنه أن يغير كثيرا من أشكال العلاقات بين الناس في مجتمع أشرفت علاقاته على التفسخ، ولن يثمر هذا البعث شيئا ذا قيمة إلا إذا عملنا على بثه في نفوس الصغار؛ بتحريضهم على الإبداع وكسر الحواجز أمام التفكير الخلاق، والابتعاد عن التلقين، وآثاره المدمرة للنفس الإنسانية؛ إذ أنه ينمّط الأجيال ويجعلها مصابة برهاب التمايز عن المجموع.
إننا إذ نرى تلك الأهمية الكبيرة للتفلسف لا نقف كثيرا عند الفرق بينه وبين الفلسفة بوصفها مطلوبا لغير موجود بحسب “كانط” الذي يرى أن التفلسف يقود الى الفلسفة وليس العكس. وخلاصة فكرته أننا لا يمكن وبأي حال من الأحوال “أن نتعلم أي فلسفة من الفلسفات، إذ أين هي؟ ومن يمتلكها؟ وكيف نتعرف عليها؟ لا يمكن أن نتعلم سوى التفلسف”. ووفقا لهذه النظرة التي ترفض إمكانية تداول المعرفة الفلسفية الجاهزة؛ “فإن مناهج التعليم يجب أن تركز على قضايا تساعد على تنشيط العقل وتنمية قدرته على التفكير الذاتي لاستنباط فلسفته”.
الخلاصة.. نحن في حاجة ماسة إلى التفلسف بل إن مشكلتنا الكبرى تكمن في معاداة التفلسف، فكيف لواقع صار آليا تماما في إنتاج تأزماته ألا يعترف بحاجته الماسة إلى ذلك الفعل الكاشف لعوامل الإفناء الناجز بداخله.. إنه سبيل إن لم نسع إلى تلمسه الآن سيكون خيارنا الوحيد أن نخرج كلية إلى عالم منعزل يقبل بتراجعنا المتواصل، أو سنجد أنفسنا في يوم من الأيام محل دراسة بوصفنا جماعات منقرضة استسلمت للفناء دون مقاومة تذكر.