رؤى

عبّاد بن بشر.. النوراني بطل يوم اليمامة

عشرة رجال من الخزرج ورجلان من الأوس، يشرح الله صدورهم للإسلام فيسلموا ويبايعوا رسول الله – صلى الله عليه وسلّم- في الموسم؛ فيرسل معهم مصعب بن عمير ليعلمهم دينهم، فيعود معهم إلى يثرب.. يَجِدُّ مصعب في الدعوة إلى الله بمعاونة أسعد بن زرارة الخزرجي الذي استضافه وبذل له كل ما يعينه على أداء مهمته.

يسمع عبّاد بن بشر بهذا القادم من مكة؛ فيسرع بالذهاب إليه والجلوس بين يديه والاستماع بأُذُنٍ واعية لما يقول. ليس عبّاد بالذي يبادر إلى باطل أو يُخدع أو تختلط عليه الأمور.. لقد عُرف منذ شب عن الطوق برجاحة العقل، وشدة الفطنة، والبصيرة النافذة.

تردد عبّاد على مكة قبل ذلك اليوم غير مرة، سمع بمصعب فتى قريش المدلل وأنعم شبابها، لكنه اليوم على غير الصورة التي رآه عليها من قبل.. نحيل إلى درجة الهزال، يرتدي أثمالا.. ذهب بياض بشرته الذي كان يتوهج بالنعمة والترف.. صار أسمر بفعل شمس الحبشة التي ذهب إليها مهاجرا وقضى بها سنوات.. تساءل عبّاد: أي دين هذا الذي ضحى من أجله مصعب بكل هذا النعيم؟! أي دين هذا الذي يجعل أتباعه يستغنون به عن كل ما في هذه الدنيا من متاع؟

لقد أحسن محمدُ اختيار سفيره إلي يثرب.. مصعب رجل تفتح له القلوب قبل أن تعانق كلماته الآذان.. قل يا مصعب، كٌلّي آذان مصغية.

وما إن تحدّث الفتى القرشي بكلمات الله التي أنزلها على نبيه، حتى غمر فيض النور نفس عبّاد؛ فبسط يده معلنا إسلامه، مبايعا سفير رسول الله على ما بايع عليه الرجال في العقبة، كما ذكر عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلّم على أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيهِ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِهِ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ.

ثم كان القدوم المبارك لنبي الرحمة إلى يثرب؛ ليجد عبّاد نفسه بين يدي المصطفى الهادي؛ فتزداد روحه تعلقا بهذا الدين، ويكون حظه منه حب الجهاد في سبيل الله، فلا يتخلف عن الصف الأول في كل حروب الرسول، يشق بسيفه صدور الأعداء، لا يأبه إلى تلك الجراحات التي كادت أن تغطي جسده كله.. شيء آخر تعلّق به قلب ابن بشر، هو قيام الليل إذ كانت الآيات البينات تحمله بعيدا إلى حالة نورانية مكتملة يؤثر الموت على أن يقطعها، كما أخبر عمّارا بن ياسر الذي زامله في نوبة حراسة، بعد العودة من غزوة ذي الرقاع، فنام عمّار وقام عبّاد للصلاة، فرُمِيَّ بالسهم تلو الآخر، فما قطع صلاته، وما أيقظ صاحبه حتى سلّم.

في تلك المشاهد التي كان فيها عبّاد إلى جانب المعصوم يفتديه بروحه، لا يسلمه في أشد اللحظات حين تخاذل عنه الناس.. يرهف السمع إليه وهو يخاطب الأنصار: “يا معشر الأنصار.. أنتم الشعار، والناس الدثار، فلا أوتين من قبلكم”. فترد روحه والدمع يفيض: فداك أرواحنا وأهلونا وكل ما لنا يا رسول الله.. هذا الخطاب الذي بلغ من عبّاد كل مبلغ، وعى الرجل قدر المسئولية التي ألقيت على الأنصار، منذ ذلك اليوم إلى أن كان يوم اليمامة في حروب الردّة.. يوم أن جمع مسيلمة جيشا ربما لم ترَ العرب مثله من قبل.. الإسلام في خطر.. توشك الدائرة أن تكون للأعداء.. كان عبّاد قد علم أن اليوم هو يوم فرحه العظيم، رأى في ليلته الأخيرة، السماء وقد فتحت وإذا به يصعد في تلك الفرجة، ثم إذا بالسماء تطوى عليه وتغلق، قال في نفسه: اليوم ألقى الأحبّة.. محمدا وصحبه.. وإذا بكلمات الحبيب تتردد على أسماعه.. يا معشر الأنصار… لا أوتين من قبلكم.

يعتلي عبّاد إحدى الربوات، ويصيح بما أوتي من قوة: يا معشر الأنصار، أحطموا جفون السيوف… وتميزوا من الناس. فإذا بأربعمئة رجل من الأنصار على رأسهم أبو دجانة، والبراء بن مالك، يلبون نداء عبّاد.. كان الأعداء متحصنين في حديقة، لم يستطع جيش المسلمين اقتحامها عليهم؛ فإذا بتلك الكتيبة النورانية التي يقودها ابن بشر، تقتحم حديقة الموت تلك وتعمل السيف في رقاب الرجال دون هوادة، حتى كتب الله النصر للمسلمين.

وينال عبّاد الشهادة، وما بقي في جسده الطاهر موضع إلا وبه جرح.. حتى وجهه اللطيف هادئ القسمات، اختفت ملامحه من كثرة الجراح.. لكن أبا سعيد الخدري الذي بشره بالشهادة، حين روى له عبّاد رؤياه المباركة- تعرّف عليه من علامة كانت في جسده.

ليلحق عبّاد بن بشر بتلك الكوكبة المباركة التي ضمت معلمه الأول مصعب بن عمير، شهيد يوم أحد الذي أبى أن تسقط الراية؛ حتى بعد أن قطع ابن قميئة كلتا يديه.. فحافظ عليها إلى أن لقي ربه شهيدا.. رضي الله عن عبّاد ومصعب وعن تلك الكوكبة المباركة التي أضاءت بدمائها الزكية تاريخ هذا الدين العظيم.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock