في زمن “السوشيال الميديا” والفضاء المفتوح على مصراعيه؛ بحثا عن أشياء تملأ فراغه وتَجلب المشاهد أو بالأحرى تستحث المُعلن على طرح بضاعته، وسط ركام الكساد وأوجاع التضخم يبقى “التريند” هو سيد الموقف.
ويبقى الفن المصري أسيرا لثنائية قاتلة، ما بين رداء الفضيلة والتحصن بدرع الدفاع عن أخلاق المجتمع وقيمه وثوابته من ناحية، والتمسك بالحق في الطيران بواسطة أجنحة حرية الإبداع والتمسك بشعارات مثل “دع ألف زهرة تتفتح” حتى لو أنَّهم لم يروا تلك الأزهار من الأساس.
هنا يقف الجميع ممسكا بثوابت عقله وبواعث وجدانه الذى تشكل، ثم أصبح مستباحا للجميع فتداخلت به كافة الخيوط الفنية المتشابكة لتعلن أننا في عالم مختلف وإزاء ذوق مغاير وحراك فنى لا يعرف السكون طويلا.
تصدرت محركات البحث تفاصيل ذلك التراشق الذي شهدته مصر وتابعه العرب من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي بين “هاني شاكر” أو كما يطلق عليه “أمير الغناء العربي” لكن هذه المرة لم يتحدث الأمير بصفته مغنيا؛ لكنَّه تحدث بصوت “نقيب المهن الموسيقية” المسئول عن حماية أعضاء النقابة والعمل على تطوير المهنة و”الإبداع”.. وبين رجل الأعمال الشهير “نجيب ساويرس” أحد صناع الثقافة في مصر سواء اختلفنا أو اتفقنا معه فهو يقوم منذ سنوات بدور في الحياة الثقافية سواء من خلال “مؤسسة ساويرس الثقافية” أو “مهرجان “الجونه” السينمائي الدولي”.
تصاعدت حدة الخلاف بين أنصار الدعوة للقضاء على ظاهرة أغاني وموسيقى المهرجانات –بكل ما تحمله من اسفاف وتردى وإساءة للفضيلة والثقافة المصرية؛ ولهذا جاء قرار النقابة بمنع عدد كبير من مطربي المهرجانات؛ ليمثل القرار ضربة قاضية وعنيفة من جانب دعاة الفضيلة والتمسك بالقيم، رافعين شارات النصر.. وتتوالى التأييدات والمباركات من كل صوب وحدب.. سعداء بهذا النصر المبين الذي حققه الفن المصري الأصيل!.
في المقابل خرج “ساويرس” وعدد كبير من المهتمين بالفن والمدافعين عن حق الجميع في التعبير عن أنفسهم، على أن يترك الأمر للجمهور كي يفرز الطيب من القبيح– منتقدين موقف النقابة وقرارها بالمنع رافضين منهج المنع من حيث المبدأ وكأنَّهم حراس حرية التعبير!.
وتطور الأمر ليبلغ درجة من التراشق اللفظي بين “الأمير” و”الملياردير” وهنا تجدر الإشارة إلى عدة ملاحظات:
الأولى أنَّ الإعلام المصري الرسمي –بشكل عام– يتبنى وجهة نظر النقابة ولا يمانع في قرار المنع؛ بل أنَّه وجَّه انتقادات حادة إلى “ساويرس” ولم يتردد في إعلانه عن دعم “هاني شاكر” بصفته وبشخصه “في معركته التي يخوضها من أجل رفعة شأن الفن المصري”.
الملاحظة الثانية: أنَّ عددا كبيرا من النقاد المعروف عنهم دفاعهم الدائم عن حرية الإبداع؛ قد التزموا الصمت انتظاراٍ لما ستسفر عنه المعركة، وأنَّ القليل الذى بادر بإعلان موقفه –غير المتوافق مع النقابة– تعرَّض لسيل من سهام النقد بلغت درجة الاتهام بالتزلف والمداهنة لـ”ساويرس”
هكذا بدت القضية.. من يحب الأمير يدافع عن قراره، ومن يستشعر أنَّ الدولة ومؤسساتها الثقافية والإعلامية تدعم نهج النقابة يرى أنَّه كُلِّى الصحة.
بينما من لا يتفق مع “ساويرس” ولديه ملاحظات على تغوُّله في الشأن الثقافي أو يسير في ركب المنتقدين لمهرجان “الجونه” خاصة عبر الوجه الإعلامي الذى لم ير به سوى “الريد كاربت” وفساتين مشاهير السينما.
اختلطت الأوراق وتداخلت بشكل صار من الصعب فصلها بدقة لتحديد المسارات واستجلاء المواقف.
يظن الأبرياء من الداعمين لموقف المنع أنَّ هذا سوف ينعكس بالفائدة على الفن المصري الملتزم والجاد ويغيب عنهم سؤال يبحث عن إجابة منذ سنوات وهو:
ماذا قدمت النقابة للفن الجاد في مصر؟ هذا سؤال مشروع. ماذا عن ما تعرضت له فنانة بحجم “آمال ماهر” من ظلم وتشوية؟.. ليتم إجبارها–في النهاية– على الاعتزال بعد أن تم تدمير كل رصيدها الفني، بعد قيام رجال أعمال عرب بشراء قناتها على اليوتيوب والتحكم بها وغلقها.. كل هذا ولم ينتبه الأمير ولا نقابته لصرخات “آمال” وتوسلاتها له ولهم!.
كما أن بعض الأبرياء من المؤيدين لموقف المنع؛ يتهامسون في حيرة؛ ويطل من عيونهم سؤال آخر؛ وهو لماذا يصمت الأمير ومجلسه إزاء ما يفعله محمد رمضان؟ ومن الذى يمنحه التصريح لتنظيم حفلات غنائية تثير غضب جمهور المحافظين؟ وكيف تخرج تصريحات على لسان النقيب يقول فيها “محمد رمضان مُحَصَّن لأنَّه عضو في نقابة فنيه” ويبقى السؤال، هل تلك الحصانة تسمح لـ “رمضان” بتقديم كل هذا الابتذال في حفلاته؟
منذ فترة طويلة حصل سيادة النقيب “شاكر” على الحق في الضبطية القضائية لأعضاء نقابته لكنَّه لم يهنأ بهذا المكسب كثيرا، بعد أن حكمت محكمة القضاء الإداري بإلغاء تلك المنحة.. ومؤخرا تقدمت الحكومة بمقترح لإدخال تعديلات على قانون رقم 35 لسنة 1978 الخاص بالنقابات الفنية.. وخلال المناقشات تحت قبة البرلمان تصاعدت مطالب بضرورة منح الضبطية القضائية لأعضاء النقابات الفنية بدعوى التصدي للفن الرديء والمسف.. وحتى الآن ما زال النقاش دائرا بين مؤيد ومعارض حول هذا التعديل الذى يمنح حق الضبطية القضائية للنقباء.
يبدو الموقف شبيها إلى حد كبير بتلك الحملة الشرسة، التي تعرض لها فيلم “ريش” وصنَّاعه، وحالة التنمر الطبقي التي تعرض لها أبطال العمل؛ بدعوى أنَّه يسيء لسمعة مصر، ويشوِّه صورتها –على حد زعمهم– رغم ما حققه العمل من مكاسب تضاف إلى إنجازات السينما المصرية.
ونحن هنا لا ننطلق من فرضية أن “ريش ” يشبه أغنيات المهرجانات في شيء؛ لكننا نشير إلى حالة استعلاء واضح ضد بعض أنواع من الفنون سواء قبلناها أو رفضناها وسواء كنا نتذوقها أم لا.. ويظل التعامل الفوقي الذي يتسم بنَعرَة طبقية من جانب البعض خطرا كبيرا يهدد مجتمعنا.
ولا يمكن إنكار أنَّ تاريخنا الفني يكشف عن بعض جوانب تلك الصفة القبيحة التي مارسها البعض ضد أنواعٍ من الفنون.. وجميعنا يتذكر الهجوم الذى تعرض له “أحمد عدوية” بعد أن ظهر في أعقاب نكسة يونيو 1967، وظل عدد كبير من المثقفين يعتبرونه نموذج للتردي في الفن المصري، حتى إنَّ أديب نوبل “نجيب محفوظ” قد تعرَّض لموجة انتقاد حادة لمجرد تصريحه بأنَّه يحب صوت “عدوية” ويستمع إليه.
ويذكر أن الراحل بليغ حمدي قد لحَّن خمس أغنيات لـ “عدوية” رغم النقد اللاذع الذي تعرَّض له؛ خاصَّة من أنصار الأغنية الكلاسيكية.
وبعد عقود أصبح غناء “عدوية” واحدا من كلاسيكيات الأغنية الشعبية المصرية.
لقد خرجت موسيقى المهرجانات مثلها مثل “الراب” و”الجاز” من المناطق الفقيرة والمهمشة، لتغزو عوالم الأثرياء، وتكتسب أرضا في مناطقهم وعقولهم، لكنها ظلَّت تعامل لدى الكثيرين على أنها نبت الفقراء ونتاج العشوائيات.
علينا–إذن– أن نحوِّل المعركة بين “الأمير” و”الملياردير” إلى مدخل لمناقشة وضع الفن المصري بشكل عام، في ظل أوضاع شديدة التعقيد وأزمات حادة يعشيها ومحاولات مستمرة للسيطرة عليه أو إقصائه عن صدارة المشهد العربي.
يجب– أيضا– أن نبحث عن الطازج فيما بين الطرفين، بعيدا عن شيطنة طرف أو إدارة الأمر بمنطق جماهير كرة القدم المتعصبة.. وللأسف بعضنا يشارك في هذا المخطط سواء بقصد أو بدون قصد.. ومن بيننا من لا يرضون إلا بتحويل الأمر إلى أبيض وأسود.. فإما أن تكون مع الأمير وتصبح مدافعا عن قيم المجتمع وأخلاقه، أو تكون ضد حرية الإبداع ومع المصادرة والمنع ويتم وصمك بدعم الابتذال والدفاع عن القبح.
هي ليست معركة صفرية.. وإن كانت هكذا فستلحق ضررا بالغا بالفن المصري الذى كان ومازال أثمن ما نملكه وأعظم أسلحتنا ومصادر نفوذنا.. وعلى الجميع –وعلى رأسهم الدولة– أن يستفيق لإنقاذ ما تبقى من رصيدنا الفني ونفوذنا المعنوي وقوتنا الناعمة التي تعانى من أزمة شاملة.. فلن يكون المنع طريقا لمواجهتها بقدر ما يكون دعم الجاد والجديد والمتميز هو الطريق الأفضل لذلك.