إنَّه من المدهش حقا أن تحملَ تصاريفُ القدر لإنسانٍ بعينه الدورَ الذي سيلعبه في تاريخ وطنه وأمته – بإشارات بالغة الدلالة.. وهذا –تحديدا– ما يستشعره المتأمل لسيرة الشهيد البطل “أحمد عبد العزيز”.
فلقد جاء مولده في عام ١٩٠٧، وهو العام ذاته الذي ودَّعت فيه مصر ابنا بارا آخرَ من أولادها، هو الزعيم الوطني “مصطفى كامل”. كما كان مولده في العاصمة السودانية (الخرطوم) بمثابة تأكيدٍ على البعد القومي العربي الذي سيميز دوره الوطني لاحقاً؛ وهو ابن البكباشي “محمد عبد العزيز” الضابط بالجيش المصري والذي ورث عنه “أحمد” الالتزام والانضباط العسكريين.
وكانت أولى ملامح دور “أحمد عبد العزيز” الوطني؛ حين شارك –كما يؤكد الكاتب أبو الحجاج حافظ في كتابه “البطل أحمد عبد العزيز”– في تظاهرات ثورة ١٩١٩، رغم أنَّ عمره حينها لم يتجاوز الثانية عشرة؛ تلك الثورة التي شهدت استشهاد شقيقه عُمر، وهو الحدث الذي أثَّر فيه أيَّما تأثير.
وفي سن السادسة عشرة هاجم “أحمد عبد العزيز” مع رفاقه من الطلبة الوطنيين، جنديا إنجليزيا وأشبعوه طعنا؛ ما أدَّى إلى اعتقال “أحمد” ورفاقه. إلا أنَّ الادعاء لم يستطع أن يثبتَ التهمة عليه؛ فلبث في السجن نحو ثلاثة أشهر، ثم أُفرجَ عنه عام ١٩٢٣.
ورغم نجاحه بتفوق في دراسته الثانوية عام ١٩٢٥، إلا أنَّه فاجأ الجميع برغبته في الالتحاق بالكلية العسكرية بدلا من إحدى كليات القمة: الطب أو الهندسة التي كان مجموعه يؤهله للالتحاق بأي منها.
وبالفعل أثبت “عبد العزيز” كفاءة وتميزا في دراسته العسكرية، وجاء ترتيبه الثاني على دفعته.. ثم التحق بالعمل في المؤسسة العسكرية المصرية؛ مدرسا في الكلية الحربية.
إلا أنَّ أحداث فلسطين المتسارعة والتي بلغت أوجها في أبريل من عام 1948 .. مع المجازر التي كان الصهاينة يرتكبونها ضد الأهالي من الفلسطينيين بغرض إجبارهم على ترك ديارهم دفعت “عبد العزيز” في الشهر ذاته طلب إحالته إلا الاستيداع مؤقتا لمدة ٦ أشهر.
كان الغرض الأساسي من هذا الطلب؛ هو رغبة “عبد العزيز” في التفرغ لقيادة المتطوعين الذين تدفقوا من كل صوب للذود عن فلسطين وأهلها.. وفي محاولة من النظام الملكي لاستيعاب هؤلاء المتطوعين عهدت قيادة الجيش إلى “عبد العزيز” بمسئولية قيادتهم؛ نظرا لخبرته ورغبته الشخصية في المشاركة في القتال في فلسطين والتي عكستها خطاباته الموجهة لوزير الحربية “حيدر” باشا بداية من يناير ١٩٤٨.
كان “عبد العزيز” يدرك تماما –كما عكست تلك الخطابات– أنَّ الخطر الصهيوني إذا استفحل أمره؛ سيهدد مصر ذاتها؛ ولذا فإنَّ واجبه الوطني يفرض عليه أن يتطوعَ لخدمة فلسطين.
وحين عهدت القيادة لـ “عبد العزيز” بمسئولية المتطوعين؛ استقبل المتطوعون الخبر بفرح بالغ.
ويذكر الوزير السابق “كمال الدين حسين” –الذي كان أحد المتطوعين حينها– سعادته بهذا الخبر حيث أنَّ “عبد العزيز” كان أستاذه في الكلية الحربية، وكان يُلَقِّن طلبته كراهية الاستعمار.
ومع حلول نهاية شهر أبريل عام ١٩٤٨، ذهب “عبد العزيز” إلى جنوب فلسطين لاستكشاف ساحة المعركة المقبلة؛ ورغم قلة السلاح والإمكانيات المتاحة إلا أنَّ القائد تحرَّك بجنوده في الأول من مايو، وكان في مقدمة مودعيه، ضابط آخر سيكون له دور بالغ الأهمية لاحقا هو البكباشي “جمال عبد الناصر حسين”.
وكان أول صِدَامٍ للمتطوعين مع الصهاينة، في معركة قُربَ “خان يونس” بقطاع غزَّة؛ حيث هاجموا مستعمرة للعدو وسقط أول شهيد من المتطوعين هو “فتحي الخولي” وأثار الهجوم ذُعرَ الصهاينة ولاذوا بالفرار.
ثم هاجم القائد والمتطوعون مستعمرة دير البلح القريبة، وأشعلوا فيها النيران، وفتح “عبد العزيز” بذلك الطريق إلى مدينة غزة، ثم إلى “بئر السبع” ثم مدينة “الخليل” وسرعان ما حرر منطقة “النَّقَب” بالكامل.
مهَّدت انتصارات “عبد العزيز” وقواته الطريق أمامَ الجيش المصري، حين دخل حرب فلسطين بشكل رسمي، وبات عليه أن يتولى مَهَمَّةَ الدفاع عن منطقة “بئر السبع” ولا يتجاوزها شمالا؛ وبذلك يتولى عبء حماية “مَيْمَنَة” الجيش المصري والدفاع عن مدخل فلسطين الشرقي.
وتأكدت صحة توجه الجيش في الاعتماد على “عبد العزيز” حين حاول الصهاينة احتلال قريه “العسلوج” لقطع الطريق على الجيش المصري؛ فاستعان الجيش بمتطوعي “أحمد عبد العزيز” الذي تمكَّن بالفعل من دخول هذه القرية وتحريرها من الصهاينة؛ كما تصدى لمحاولات الصهاينة الاستيلاء على جبل “المُكَبِّر” المطل على مدينة القدس وكلَّفهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
أجبرت انتصارات المتطوعين، العدوَّ على قبول التفاوض. وبالفعل بدأت مفاوضاتٍ بين الطرفين في مقر قيادة الجيش العربي بالقدس بحضور كل من “عبد العزيز” والضابط الأردني “عبد الله التل” مع الجانب الصهيوني.
وفي ٢٢ أغسطس عام 1948، حمل “عبد العزيز” نتائج المفاوضات إلى مقر الجيش المصري في “غزَّة” ولدى مرور سيارته في منطقة “عراق المنشية” أطلق جندي مصري النار على السيارة التي تُقلُّه؛ ظنا منه أنَّها من سيارات العدو.. ليلقى القائد البطل ربه شهيدا.
طوى استشهاد “عبد العزيز” ملفه الحافل بالبطولات، والذي كان آخر تقرير فيه في أغسطس ١٩٤٨، يقول أنَّ الشهيد “كان له أكبر الفضل في نجاح معركة القدس، وغيرها من المعارك التي خاض غمارها وقاد فيها رجاله ببسالة وشجاعة ومقدرة فائقة”.
ويضيف التقرير أنَّه “أضرم في صدور المجاهدين نارا لا تخمد وأوقد في قلوبهم شعلة لا تهدأ، وملأها بحب التضحية والفداء”.
