رؤى

الإسلام والحاكمية (1).. قراءة نقدية في صياغة المصطلح

لعل أول ما يلحظه الناظر المدقق في لفظ “الحاكمية”، أنه كـ”مصطلح”، من الناحية اللغوية الصرفية، مصدر صناعي من اسم الفاعل “حاكم”، لحقته ياء النسبية مردفة بالتاء للدلالة على صفة فيه.. وكما صيغ مصطلح جاهلية من جاهل، وفاعلية من فاعل، صيغت حاكمية من حاكم.

صحيح أن هذه الصيغة لم تكن مألوفة ـ اشتقاقًا من جذر “حَكَمَ” ـ في الاستعمال اللغوي أو الشرعي أو الفكري، من حيث كونها لم ترد تحت مادة “حُكْم” في المعاجم العربية كـ”لسان العرب” لابن منظور، أو “تهذيب اللغة” للأزهري، أو “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس كأمثلة..

إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضًا، أن المصدر الصناعي في اللغة العربية عامة، الذي قيست عليه هذه الصياغة، أصبح أكثر انتشارًا مع حركة الترجمة ونقل العلوم إلى العربية. ومع هذا الانتشار، أدى شيوع بعض المصطلحات، التي اشتقت من المصدر الصناعي، إلى لبس واسع: ليس فقط في فهم المعنى الدقيق لهذه الصياغات ـ الاصطلاحية ـ المحدثة؛ ولكن كذلك وهو الأمر الجدير بالانتباه والتأمل، في فهم المصدر الأصلي الذي اشتقت منه.

الإسقاط السياسي للمصطلح

في مقدمة هذه الصياغات المحدثة، التي أدت إلى اللبس إياه، يأتي مصطلح “الحاكمية” الذي تم فيه ومن خلاله إسقاط المدلول السياسي الشائع في العصر الحديث، على جذر “الحكم” الذي اشتقت منه.

ولنا أن نتصور، والحال هذه الخلط الخاطئ، الناتج عن اللبس المشار إليه، في ما بين الدلالات المتضمنة في حكم، ومن ثم حاكم وحاكمية ـ في اللغة و”التنزيل الحكيم”، وبين المعنى السياسي الذي اتخذه هذا اللفظ (حكم) في العصر الحديث.

هنا سنحاول مقاربة اصطلاح “الحاكمية” نشأته ودلالاته والمعنى السياسي الذي تم إلباسه إياه، خاصة وأنه ـ كـ”اصطلاح” ـ كان قد مثل، وما يزال يُمثل، حجر الزاوية في فكر تيار عريض من التيارات السياسية العاملة على الساحة العربية (تيار الإسلام السياسي)، منذ منتصف القرن العشرين.

وأول ما يواجهنا في شأن الصياغة المحدثة لمصطلح الحاكمية، أن تلك الصياغة تعود إلى مفكر إسلامي “غير عربي”، هو الداعية الباكستاني أبو الأعلى المودودي (1903 ـ 1979)؛ الذي، وإن كان قد تميز باطلاع عميق، غير منكور، على الثقافة الإسلامية ولغتها الأم: اللغة العربية؛ إلا أنه كان قد صاغ جماع فكره (السياسي) ـ ومنه ما كتبه عن “الحاكمية” ـ بين نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات من القرن العشرين الماضي (بين عامي: 1937 ـ 1941)، حينما كانت تلوح في أفق الهند (المستعمرة الإنجليزية حينذاك)، صورة الهند المستقلة كما تصورها “حزب المؤتمر”: دولة قومية ديمقراطية علمانية، على النمط الغربي.

أبو الأعلى المودودي
أبو الأعلى المودودي

ورغم أن الكثير من أعمال المودودي قد ترجم إلى العربية، فإن الفكر السياسي للرجل، عند استلهامه، قد تم عزله تمامًا عن الظروف والملابسات ـ المجتمعية ـ التي كتب فيها؛ بل، وعزلت الكثير من نصوصه عن نصوص أخرى له، كانت كفيلة بعرض آرائه في تكاملها الواجب والضروري والمطلوب.

ومن ثم، فإذا كانت “الفكرة ابنة واقعها الاجتماعي”، فإن اجتزاء النصوص (عن نصوص أخرى مكملة لها)، واجتزاء الفكر (عن ظروف وملابسات إبداعه، نعني الظروف المجتمعية المحيطة به)، لن يكون لهما من نتيجة سوى نقل مبتور ومشوه لسياق فكري مرتبط بواقعه المجتمعي.. على الأقل.

هكذا، تم نقل فكرة المودودي عن “القومية عصبية عدوانية” بعد انتزاعها من الأسس المجتمعية لواقعها  –الهندي– الأصلي، ليتم توظيفها في إطار الواقع العربي ذي القومية الواحدة.. وهكذا، أيضًا، تم نقل فكرة المودودي عن “الحاكمية”؛ فكان الذين ينقلون ـ في هذا ـ ينقلون نقلًا شائهًا عنه، فلم ينصفوه، ولم ينصفوا أنفسهم.

صياغة المودودي المختلطة

وإذا كان الواقع المجتمعي الذي نبت فيه فكر المودودي بصفة عامة، وفكرته عن “الحاكمية” على وجه الخصوص، هو الواقع “الهندي”؛ فإن أهم ما يمكن ملاحظته، في هذا الشأن، هو كم المتناقضات التي كان يتسم بها هذا الواقع، تلك التي دفعت المودودي دفعًا إلى أن يتبنى فكرة “الحاكمية” بذلك الشكل الذي تبناها به.

من هذه المتناقضات: الانقسام “المذهبي” الحاد الذي كان يُفرق بين “السنة” و”الشيعة”، وغيرهم من الاتجاهات الطائفية الأخرى، والذي عبَّر عن نفسه في تمايز وتباين المواريث الفقهية.. ومنها –أيضًا– الانقسام “العقيدي” الحاد بين الهندوس (الذين كانوا يمثلون 75 % من السكان)، والمسلمين (الذين كانوا يمثلون النسبة الباقية من السكان)، في ظل الاستعمار البريطاني.. هذا، فضلًا عن الانقسام “السياسي” الحاد حول رؤية “مستقبل الهند” بين الهندوس والمسلمين.

هذه المتناقضات وغيرها –والأخيرة منها بشكل خاص– أثرت في رؤية المودودي بشكل عام، وفي منظوره لـ”الحاكمية” على وجه الخصوص.

ففي مواجهة صورة الهند المستقلة، كما تصوَّرها “حزب المؤتمر”: دولة قومية علمانية على النمط الغربي؛ وفي مواجهة “الحاكمية” التي ستكون فيها (وهي في نظر المودودي ستكون لـ”الجاهلية الهندوكية الكافرة”) أعلن المودودي بأعلى صوته عن كفره بهذه “الحاكمية البشرية” وركَّز على الجانب الإلهي من الحاكمية؛ حتى جرد الإنسان ـ في نصوص كثيرة له ـ من أية سلطة وأي سلطان.

صحيح أن المودودي قد ارتاد الدعوة إلى نظرية “الحاكمية” المحدثة، في عصرنا الحديث، إذ لم يسبقه إليها أحد من أعلام “الصحوة الإسلامية” الحديثة، من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وابن باديس إلى حسن البنا.

إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضًا، وكما يُشير محمد عمارة، في كتابه: “أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية، 1986″، أن: “الكفران بالحاكمية البشرية الظالمة وهي في حال الهند في نظر المودودي جاهلية كافرة– كان السبيل إلى رفض الحاكمية البشرية عمومًا، والتركيز على “حاكمية إلهية” ليس في ظلها أثر لحاكمية الإنسان”.

وهكذا، كانت خصوصية الزمان والمكان، والظروف والملابسات التي كانت تعيشها الهند، عندما كتب المودودي فكره هذا، هي ما جعل من صياغته –التي جعلت من “الحاكمية الإلهية” نقيضًا لـ”الحاكمية الإنسانية”– صورة مُعبرة عن فكر سياسي أفرزته ظروف وملابسات مرحلية معينة عاشها الرجل وتعايش معها.

أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية

صياغة قطب الملتبسة

مثلما كانت خصوصية الزمان والمكان، والظروف والملابسات التي كانت تعيشها الهند، عندما كتب المودودي فكره، وحاول بناءً عليها استحداث مصطلح الحاكمية؛ فإن بعضًا من الظروف والملابسات الأخرى كانت قد ساهمت في اجتزاء الفكرة، وفصلها عن سياقها “التاريخي ـ الاجتماعي”، وإسقاطها على واقعنا العربي (الذي يمثل المسلمون فيه أكثر من 95 بالمئة من تعداده).. بل إن الاجتزاء والفصل والإسقاط قد تم تحت وهم أن “الحاكمية فكرة مطلقة”.

مثل هذه الظروف والملابسات (الأخرى)، وتأثيراتها، تتبدى بوضوح إذا لاحظنا: أن فكرة الحاكمية، كان قد تبناها سيد قطب (1906 ـ 1966)، في المرحلة الأخيرة من حياته حينما كان في السجن.. بل وتحولت معه وعلى يديه إلى “فكرة مطلقة”.

بيد أن المفارقة هنا أن حسن الهضيبي (المرشد العام الأسبق لجماعة “الإخوان المسلمين”)، وبعد أكثر من عقد من الزمان على وفاة سيد قطب، وفي معرض ردِّه على المودودي، في كتابه: “دعاة.. لا قضاة، 1977”.. يقول: “إن لفظ الحاكمية لم يرد بأية آية من الذكر الحكيم، ولا في حديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.. والغالبية العظمى (من مردديها)، تنطق بالمصطلح وهي لا تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إلا عبارات مبهمة سمعتها عفوًا هنا وهناك، أو ألقاها إليهم من لا يُحسن الفهم أو يُجيد النقل والتعبير.. وهكذا، يجعل بعض الناس أساسًا لمعتقدهم مصطلحًا لم يرد له نص من كتاب الله أو سنة الرسول، أساسًا من كلام بشر غير معصوم وارد عليه الخطأ”.

كان من الممكن أن نكتفي بمقولة حسن الهضيبي: “هكذا يجعل بعض الناس أساسًا لمعتقدهم مصطلحًا لم يرد له نص…”؛ ولكن لأن المفارقة الحاصلة إنما تمت في الإطار العام لتيار عريض من تيارات الإسلام السياسي عمومًا، وتيار “الجماعة” بشكل خاص.. نعني: مفارقة الخلاف الجذري بين الهضيبي وقطب؛ ولأن هذا الأخير كان له “فضل السبق” في جعل “الحاكمية لله” شعارًا لتيار عريض من أنصاره وتلامذته في مصر والعالم العربي، من كافَّة الجماعات التي أطلقت على نفسها صفة “الإسلامية”.. لذا، لابد من المرور، سريعًا، على الأطروحة الرئيسة لديه.

في كتابه: “معالم في الطريق”، يقول سيد قطب: “إن العالم يعيش في جاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله على الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية، إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابًا… في ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة…”.

غلاف كتاب معالم في الطريق

وطالما أنه لا يمكن التعايش بين الخير والشر والحق والباطل، فإن النتيجة المنطقية، كما يراها قطب، أنه: “لا يمكن التعايش بين حاكمية الله وحاكمية البشر”..

وبالتالي، كما يؤكد سيد قطب، فإنه: “لا بقاء لطرف إلا بالقضاء على الطرف الآخر”.

وهكذا، وعبر هذه الثنائيات الحادة، فقد كفرت “الأمة”، في رأي سيد قطب، عندما خرجت على “الحاكمية الإلهية؛ كفرت “المجتمعات”، وكفر “الناس”.. إلا الجماعة الصغيرة الجديدة التي تبدأ معه الدعوة إلى الإسلام من جديد(؟!!).

وهكذا، أيضًا، بدأ تيار “الرفض الإسلامي” للواقع، على نحو كامل وجاد وعنيف؛ ومن تحت عباءة هذه “البداية”، خرجت فصائل وجماعات تملأ السمع والبصر على امتداد الساحة في عالمي العروبة والإسلام.

وهكذا، أخيرًا؛ ونحن، هنا، نستعيد جزءًا من مقولة حسن الهضيبي، التي أوردناها قبل عدة أسطر: “يجعل بعض الناس أساسًا لمعتقدهم… من كلام بشر غير معصوم وارد عليه الخطأ والوهم”….

يتبع

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock