يحتل رمضان موقعا خاصا لدى العديد من أدباء وكُتّاب مصر الكبار.. فقد كان له في حياة كل منهم ذكريات؛ خاصّةً خلال مرحلة الطفولة، وهو ما تُرجِمَ بصورة أو بأخرى في عطائهم الفكري، كما أن بعضا منهم أنجزوا مجموعة من أعمالهم المتميزة خلال هذا الشهر الكريم، الذى لم يكن بالنسبة لهم مدعاة للكسل كما هو حال الكثيرين اليوم.
في السطور التالية نحاول أن نرصد صورة رمضان، كما عكسها عدد من مفكرينا الكبار، الذين ساهموا في صناعة العقل الجمعي لمصر، لفترات زمنية طويلة.. من خلال إنتاجهم الأدبي والفكري الغزير، الذي مازال يتصدر موقعا متميزا في المكتبة العربية حتى اليوم.
عرف عن عباس محمود العقاد اهتمامه البالغ بشهر رمضان، إذ ارتبط لديه غير مرّة، بالإعلان عن صدور كتاب جديد له، وكان ذلك بالطبع كفيلا بجعل الناس يتهافتون على شراء الكتاب؛ لتنفذ جميع نسخ الكتاب، بعد فترة قصيرة من طرحها.
وفي أكثر من كتاب، وفي عدة مقالات.. تناول العقاد فلسفة الصوم والذى وصفه بأنه درس في الأدب، وقد نظر العقاد إلى رمضان من خلال قيمته الاجتماعية، ونظامه الذى يفرض قواعد ثابتة في السلوك فقال عنه: “هو موعد معلوم من العام؛ لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من شهر واحد كل سنة، تتلاقى فيه على سنن واحدة في الطعام واليقظة والرقاد”.
أما طه حسين (عميد الأدب العربي) فقد قدّم وصفا دقيقا للأجواء، التي تشهدها مصر وقت الإفطار؛ حيث يقول: “فإذا دنا الغروب، وخفقت القلوب، وأصغت الأذان لاستماع الآذان، وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقا تنقلب، وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة، وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه، بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب. الآن يشق السمع دوي المدفع، فتنظر إلى الظُّمَّاء وقد وردوا الماء، وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد، ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود وتدعو الأجواف قدني.. قدني، وتصيح البطون قطني.. قطني، ومع تعدد أصناف الطعام على مائدة الفطور في رمضان، فإن الفول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية”.
كما تطرق أيضا في كتابه الشهير “الأيام” إلى ذكرياته مع رمضان، وهو طفل صغير في الصعيد، وتطرق إلى تأثيره الكبير على سلوكيات الناس، واللافت أن الكثير من الأدباء –في كتاباتهم– قد وظفوا في وقت لاحق الكثير من الأوصاف التي أطلقها عميد الأدب العربي.
وفي كتابه “أحاديث” يقدم طه حسين وصفا للأزهر، خلال شهر رمضان حيث يقول: “مضينا إلى الأزهر ونحن نقدر أن سنجد فيه تلك الصورة التي ألفناها، وسنسمع فيه ذلك الدويّ الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطًا، ونمتزج به امتزاجاً، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفات فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف، نتنقَّل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه، نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوُعَّاظ؛ فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه فنعجب به ونبسم له، ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيضحكنا صوته أو إلقاؤه أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام؛ فننصرف عنه ضاحكين متفكهين، حتى إذا قضينا من هذا كله أربًا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العِذاب”.
أديب نوبل نجيب محفوظ قدم في روايته “المرايا” وصفا دقيقا للعب الأطفال، وفرحهم بشهر الصوم وفي رواية “خان الخليلي” استطاع أن يقدم أدق تفاصيل حياة الأسرة المصرية في رمضان كما تناول في “الثلاثية” عادات الطبقة الأرستقراطية المصرية في هذا الشهر الفضيل.
واشتهر عن نجيب محفوظ، أنه كان يقلع عن الكتابة خلال رمضان، الذي كان يفضل قضاء سهراته على المقهى بحسب ما أكده كتاب ليالي نجيب محفوظ في شبرد.
وفي كتاب “وطني مصر” يكشف نجيب محفوظ في حواراته مع محمد سلماوي، أنه كان يقضي أغلب وقته في القراءة بنهار رمضان، وكان يلاحظ أن تذوقه للقرآن الكريم أعمق بكثير من بقية شهور السنة، وأضاف أنه افتقد خلال هذا الشهر الكريم جو الحسين بعد الإفطار، فقد كانت جميع البيوت الكبيرة تقدم سهرات مديح نبوي وتقرأ فيها التواشيح النبوية بأصوات المنشدين.
وفي كتاب “سجن العمر” يسجل رائد الكتابة المسرحية توفيق الحكيم وصفا لرمضان الذى ارتبط في ذهنه منذ الطفولة بحكايات ألف ليلة وليلة التي كان يستمع إليها في صغره بشعف كبير أما يوسف إدريس فتناول في مجموعته القصصية “جمهورية فرحات” حكاية الطفل فتحي الذى لم يتجاوز العاشرة من العمر والذي يخوض تجربة الصيام للمرة الأولى حتي يصبح كبيرا في نظر أبيه ويجلس معه لتناول الطعام في السحور.