قلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري، نقلًا عن موقع مصر 360
تحدثت الدولة المصرية مرارا وتكرارا بعد توالي الآثار السيئة للحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة والقمح عن ضرورة التوصل لتصور لضبط الأسعار في خضم الأزمة الاقتصادية التي من الواضح أنها ستستمر لفترة قادمة، بما يعنيه هذا الاستمرار من تواصل تداعياتها وأعبائها القاسية على المواطن والاقتصاد المصري.
وقد اعتبرت كمواطن مصري مثلي مثل كثيرين أن هذه الدعوة الحكومية بمثابة دعوة من صناع القرار إلى حوار مجتمعي حول الأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر وتواجهها دول العالم بصور مختلفة.
وعلى الرغم من أن ارتفاع وغلاء الأسعار بصورة فادحة هو المظهر الأكثر إيلاما للناس، وهو أيضا أكثر العوامل ارتباطا بالاستقرار السياسي للدولة والحكومة ومنسوب العنف الاجتماعي والأسري ومعدلات الجريمة المتزايدة، إلا أن التضخم المسبب لارتفاع الأسعار ليس إلا واحدا من جملة اختلالات اقتصادية ومالية، وهو نتيجة أكثر مما هو سبب.
فهي اختلالات تشابكت فيها عوامل طارئة (تداعيات الأزمة الأوكرانية، ومن قبلها تداعيات جائحة كورونا)، وعوامل هيكلية متأصلة نتيجة المسارات والخيارات المرتبكة في بنية الاقتصاد المصري منذ منتصف السبعينيات.
وكشفت المناقشات في مجلس النواب المصري يوم الاثنين 18 أبريل 2022 الحساب الختامي للموازنة العامة 20/21 عن إحساسا عاما بالأزمة الاقتصادية الراهنة، ودعما ضمنيا لدعوة هذا المقال لحوار وطني واسع حولها، وتحدث النائب محمد بدراوي عن 60 مليون مصري (اغلبية الشعب) يعانون ويعيشون في حالة كرب شديد بمستويات دخول متدنية من بينهم 30 مليون مواطن يعيشون على دخل أقل من 25 جنيه يوميا (أقل من دولار ونصف أي تحت خط الفقر حسب البنك الدولي) و30 مليون آخرين يعيشون علي 50 جنيه يوميا (أقل من 3 دولارات في اليوم)، وإن هذه الإحصائيات هي إحصائيات رسمية من خلال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فيما تحدث النائب ياسر عمر عن مستويات فساد مرتفعة «محتاجين نقلل الفساد شوية والا حتكون مشكلتنا كبيرة في المستقبل».
بينما حذر النائب ضياء الدين داوود من موقف كارثي للاقتصاد المصري بسبب ارتفاع الدين العام وزيادة الاقتراض والديون. وهو نفس الموقف الذي ذهب إليه النائب عبد المنعم إمام «أعباء الدين العام الحكومى وصلت إلى ١.١ تريليون جنيه سنويا بنسبة ٥١% من إجمالى الاستخدامات المصروفات، ما يعنى أن من كل 100 جنيه الدولة بتصرفها، في 51 جنيهًا منهم رايحين لسداد أقساط وفوائد الديون، وفي نفس الوقت وصل رصيد الديون المستحقة للحكومة 465.9 مليار أن الحكومة التي لا تقدم سوى الديون، مدينة للشعب المصرى بالرحيل».
تحتاج مصر إذن مع هذه الأزمة المركبة إلى مؤتمر وطني شامل يضم كل العقول والمراكز البحثية المصرية في الاقتصاد السياسي والسياسة والبحوث الاجتماعية، للوقوف على أبعاد تلك الأزمة، وإنجاز هدفين، الأول: هو التوصل إلى استراتيجيات طويلة المدى لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري في اتجاه اقتصاد تنمية مستقلة يجعل مساهمة القطاعات الإنتاجية خاصة الصناعة أكبر بكثير من القطاعات غير الإنتاجية المتصفة في طبيعتها بأنها سريعة التأثر هبوطا وصعودا بالمتغيرات الخارجية وما يتبعه من دورات التحسن والتدهور، والتضخم والانكماش، المتكررة في الاقتصاد المصري.
على أن تضمن تلك الاستراتيجية، عملية توزيع أكثر عدلا وانصافا لعوائد هذه التنمية، تضمن معدلا محترما للادخار والاستثمار الوطني وترشيد الاستهلاك ومنع الإسراف السفيه، فيكون عاملا من عوامل التنمية المستدامة وعبور برزخ التخلف.
والهدف الثاني: هو التوصل إلي سياسات قصيرة ومتوسطة المدى لمواجهة الأزمة الحالية، بما يقلص العجز في ميزان المدفوعات، وارتفاع نسبة الديون وفوائدها أقساطها التي تلتهم معظم موارد الموازنة العامة، وتتسبب في تراجع الإنفاق علي التعليم والصحة عن المستويات المطلوبة لمجتمع أهم ثروة فيه هي ثروته البشرية الشابة.
وكما تكشف دعوة الحكومة إلى أهمية التوصل لـ«تصور لمواجهة غلاء الأسعار»، فإنه لا يمكن تحقيق هذه الأهداف اكتفاء بالصيغة الحكومية الحالية، سواء عبر ما يعرف بالمجموعة الاقتصادية أو قرارات البنك المركزي ذات الطبيعة الفنية المتخصصة. فالأزمة وطنية عامة وهي أكبر من أي مؤسسة منفردة، حتي لو كانت مؤسسة الحكومة بوزاراتها وأجهزتها المختصة.
الأزمة باختصار تتعدى بوضوح مستوى الاقتصاد بأكمله إلي مستوي الأمن القومي الشامل، من زاوية دورها الحاسم في تحديد مصير الاستقرار السياسي في هذا البلد على المدى المنظور، وفي الضغط على قدرته في الحفاظ على مكتسباته التي حققها في السنوات الماضية في دفع خطر الإرهاب إلي أدني مستوياته، وعدم السماح لظروف الأزمة وصعوباتها على الناس بأن تخلق مناخا قلقا يعود فيه الإسلام السياسي الكامن حاليا إلى قيادة الشارع المأزوم مرة أخري، وعدم السماح أيضا لأطراف اقليمية تتربص بمياه مصر أو بدورها الإقليمي في انتهاز ما يجري لتحقيق مكاسب على حساب وطننا.
لكن لماذا هناك حاجة إلى هذا الأفق الوطني العام والشامل في صورة مؤتمر جامع يستمر عدة أيام ويخرج بوثيقة عمل وطني؟؟
1- القائمون على معالجة الأزمة الاقتصادية هم تنفيذيون مثقلون لدرجة «الدوخة» بأعباء مواجهة التداعيات اليومية للأزمة ومراجعة تقارير الأجهزة المركزية والمحلية وحساب مواعيد استحقاق الأقساط والفوائد للدين العام.. إلخ.
هذه الأزمة تحتاج أن يساعدهم من أبناء الوطن ممن لديهم الوقت ليرفعوا رؤوسهم عما هو يومي، وممن لديهم القدرة البحثية والعلمية للنظر إلى ما هو أبعد من مواجهة الساعات الـ24 لليوم، وضمان أن «تعدي الليلة» ليفكرون ويجتهدون ويطرحون حلولا طويلة المدي تمنع الدورية المتكررة للتقدم والتراجع في الاقتصاد الكلي وتسببت عندنا في عدم حدوث معادلة التقدم السحرية التي حققتها الصين ونمور آسيا، وهي عبارة عن عملية تنمية اقتصادية مستدامة بمعدلات عالية ومستقرة لعقدين متصلين أو أكثر.
2- لأسباب كثيرة يطول شرحها منها ما هو متعلق بطبيعة الخيارات الاقتصادية منذ الانفتاح الاقتصادي والاعتماد المفرط على روشتات ونصائح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والحضور المهيمن للنخبة الاستراتيجية والاقتصادية والإعلامية المساندة لطبقة ال 10%.. لكل هذه الأسباب وغيرها فإن مستوى صنع القرار الاقتصادي في مصر لا يرى ولا يسمع سوى لمدرسة واحدة من مدارس التفكير في الاقتصاد السياسي وهي المدرسة النيو ليبرالية، أما مدارس اقتصاد السوق الاجتماعي الليبرالية الحقة ومدارس التخطيط واليسار ومواجهة التبعية الاقتصادية للمركز الرأسمالي العالمي وكلها مدارس تفكير لديها خيارات رشيدة ومعتدلة، لكنها لا تصل بما تطرحه إلى عين هذا المستوى ولا يصل ما تقوله إلى سمعه.
ولكن عندما تكون الأزمة عامة وحادة يجب أن تُسمع كل المبادرات وتدرس كل الآراء ليسترشد صناع القرار بأفكار الجميع ويفاضل أو يجمع بين بعضها البعض فيحد من غلو اليمين ويضع مقترحات اليسار في إطار الواقع الراهن دون طموح زائد .
باختصار آن لصناع القرار الاقتصادي ألا يقفوا محشورين في زاوية رؤية واحدة وقد أفسحها الله والعلم عليهم وعلينا. وقد اتضح أيضًا أن تكرار سياسات مدرسة التفكير السائدة لم تقدنا لتنمية مستدامة ولم تقدنا إلى تساقط ثمار التنمية على جميع المواطنين، بل خلقت آلية جهنمية لتركز الثروة في يد أقل من ١٠٪ من السكان وداخل هؤلاء الأقلية يتمتع 1% من السكان بالنصيب الأكبر من هذه الآلية لتركز الثروة وهي طبقة مستهلكة وتنشر قيم الاستهلاك، فصرنا من أقل البلدان ادخارا على المستوى الوطني، وهذا الإدخار هو قاطرة التنمية الأهم قبل الاستثمارات الأجنبية وقبل القروض الخارجية .
وأخيرا هل هذه الدعوة لمؤتمر اقتصاد سياسي وطني شامل لكل التيارات الفكرية والمدارس الاقتصادية والتنفيذيين والأكاديميين والباحثين من القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني وصناع القرار من كل الاجيال دعوة جديدة ؟ أو تقليدا مستحدثا في التجربة السياسية المصرية؟ الإجابة هي بالنفي.
فقد سبق وأن دعا الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى مؤتمر اقتصادي موسع وهام في فبراير 1982 وحضره ممثلون لكل المدارس الفكرية الاقتصادية والسياسية المصرية وسبقته أبحاث تحضيرية بالغة الاهمية، لو كان قد أخذ بـ25% من توصياته وقراراته ربما ما كنا في وضع الأزمة الراهن.
إن انعقاد هذا المؤتمر والخروج منه بوثيقة تعتبر عقدا اجتماعيا جديدا ربما كان بداية خروج حقيقي ودائم من أزمة دورية تتعثر أو «تتكعبل» فيها كل الحكومات المصرية من اللواء ممدوح سالم حتى الدكتور مصطفى مدبولي.