حينما تعرض لدراسة التراث السياسي الإسلامي، في إطار المفاهيم الفكرية “الذاتية” لهذا التراث، وذلك من خلال قيامه بتحقيق كتاب من القرن التاسع الميلادي، كتبه شهاب الدين بن أبي الربيع وأسماه: “سلوك المالك في تدبير الممالك”.. يرى حامد ربيع أن: “الدولة الإسلامية مرتبطة بالحضارة الإسلامية التي تقترن بدورها بوظيفة عقائدية ذات طبيعة كفاحية”.. ومن ثم، تدور الوظيفة الحضارية للدولة الإسلامية حول: “إرادة ثابتة في نشر الدعوة باسم الجهاد في أوسع معانيه”.. وهو ما يعني: “أن الدولة الإسلامية هي “دولة عالمية” في جوهرها، وإن لم تسمح الظروف دائمًا بتحقيق ذلك” [ربيع، 1983، ص ص 268 ـ 271].
وبناة هذه الدولة الإسلامية، في نظر حامد ربيع، خمسة: “الرسول (عليه الصلاة والسلام) صاغ المبادئ أثناء حكمه للمدينة؛ عمر بن الخطاب نقل هذه المبادئ من المدينة ـ الدولة إلى الدولة بمعناها الحقيقي، أي إلى الأرض المترامية الأطراف؛ ثم يأتي معاوية بن أبي سفيان فيؤسس معالم الدولة الإمبراطورية؛ عمر بن عبد العزيز يطعّم الإمبراطورية الجديدة بالمفاهيم والمثاليات التقليدية؛ ويأتي عقب ذلك هارون الرشيد ليقدم لنا الدولة العالمية حيث تصير بغداد عاصمة الكون” [ص 158].
واعتمادًا على هذه الشخصيات الخمس (بناة الدولة)، وتأكيدًا على “عالمية” الدولة الإسلامية (الوظيفة العقائدية).. يخلص حامد ربيع إلى مسألة محورية في ما يخص موضوعة الدولة في الإسلام، وهي: “أن الإرادة الحاكمة ليست بشرية، وإنما إرادة إلهية عليا، يحكم الخليفة باسمها، ومن هنا فلا موضوع للحديث عن سلطة الشعب في التشريع (إلا بمعنى الإجماع). وهذا التشريع ليس عملًا إراديًا يتضمن التصويت للأخذ بأمر ما، وإنما هو عمل “علمي” فقهي يتضمن تخريج القواعد من النصوص المقدسة” [ص ص 290 ـ 291].
لدينا أسباب تحملنا على ألا نقبل ما يخلص إليه حامد ربيع، في شأن الدولة الإسلامية، على إطلاقه…
نقد رؤية حامد ربيع
من هذه الأسباب: أن حامد ربيع لم يتوقف عند أن “الإرادة الحاكمة ليست بشرية، وإنما إرادة إلهية عليا”، أي: لم يتوقف عند الشعار، إياه، “الحاكمية لله” (وهو ما كنا قد تناولناه تفصيلًا، من قبل، على صفحات “أصوات أونلاين”، في حلقات “الإسلام والحاكمية”).. بل، تجاوزه إلى “إرادة إلهية عليا، يحكم الخليفة باسمها”. وهو، في ما نرى، “تجاوز” تجاوزه الفكر والتاريخ، منذ عدة قرون، في أوروبا: التي يأخذ ربيع أفكاره عن أهم مدارسها (المدرسة التاريخية الألمانية)، وعن بعض أهم مفكريها (سافني وفيختة).
من هذه الأسباب، أيضًا، أن تأثر حامد ربيع الشديد بالفكر “المثالي” الألماني، قد جعل فهمه هو، كذلك، يميل إلى المثالية.. إذ كثيرًا ما يقدم ربيع “ما يجب أن يكون” على أنه هو “الكائن” (القائم). بل، كانت تختلط في تحليله ـالذي امتد في أكثر من ثلاثمائة صفحةـ معالم الدولة الإسلامية “في النظر” (النظرية) مع أعمال الدولة الإسلامية “في التطبيق”.
والواقع، أن هذا الأخير، “التطبيق”، هو ما يدفعنا ـبالأساس ــ إلى هذه المداخلة مع “رؤية” حامد ربيع في ما يخص موضوعة الدولة في الإسلام.. وليكن العامل المشترك في ما بين هذه وتلك، الرؤية والمداخلة، هو: مؤسس الدولة الإمبراطورية، معاوية بن أبي سفيان، حسب ما أشار حامد ربيع.. أو: مؤسس “لدولة ـ المُلك”، حسب ما نشير.
لقد قلنا من قبل، في حديثنا السابق حول “الدولة: من الخلافة إلى المُلك”، أن ثمة مفارقة في القبول السريع لـ”الذهنية العربية ـ الإسلامية” للتحول، بل الانقلاب، من “الخلافة” إلى “المُلك”، أو من “الدولة ـ الخلافة” (إخضاع الدولة لمنطق الدين وتوظيفها من أجل إظهاره ونشره)، إلى “الدولة ـ السُلطة” (إخضاع الدين لمنطق الدولة وتوظيفه فيها).. وهي مفارقة، إذا لاحظنا أن هذا التحول، أو الانقلاب، كان قد تم في مدى زمني يقدر بـ”ثلاثين سنة” (منذ وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وحتى نزول الحسن بن على عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين).
ونود أن نقول، هنا.. أن التحول، إياه، الذي جاء كـ”نتيجة” لاندلاع حرب (أطلق عليها في التاريخ العربي الإسلامي اسم “الفتنة”)، شارك فيها كل المسلمين تقريبًا، واستمرارها لأكثر من خمسة أعوام كادت أن تقضي ـبالمعنى الحرفي للكلمةـ على العرب، وهم لا يزالون على صلة قريبة بالنبوة والوحي، وانتهت بانقسامهم وزوال الخلافة الدينية نفسها وقيام “الدولة ـ المُلك”.. (هذا التحول) لا يمكن أن يعود ببساطة، إلى دهاء رجل مهما كان مركزه (وقد كان مركزه المادي و المعنوي والسياسي أقل بكثير من خصمه، علي بن أبي طالب).. ولا يمكن أن يعود، في الوقت نفسه، إلى دهائه، كما ذهب إلى ذلك بعض ممن كتبوا في الموضوع.. ناهيك عن أنه لا يمكن أن يعود إلى شراء معاوية للضمائر، بالوعود التي أعطاها والوجوه التي قربها منه، في سبيل السيطرة على “الحكم” والتمكن من السلطة، كما ذهب إلى ذلك بعض آخر.
فكيف تم التحول، إذًا، وكيف تمت المفارقة(؟!).
إشكالية الديني والسياسي
إن المدخل إلى مقاربة مثل هذا التساؤل، في اعتقادنا، هو ملاحظة أن مقتل عثمان بن عفان لم يكن إلا فاتحة للأزمة الحقيقية، التي سوف تضع، وجهًا لوجه، خليفة المسلمين وأحد أكبر رجال الإسلام وأبطاله، على بن أبي طالب، من جهة، ومعاوية بن أبي سفيان، أحد ولاة الأمصار المفتوحة، من جهة أخرى.
ولعل الأمر الجدير بالاهتمام والتأمل، في آن، في هذا الشأن، أن المرء يكاد ألا يُصدق أن مثل هذه “المواجهة” كان يمكن أن تحدث في ذلك العهد القريب من النبوة، وأن واليًا، مثل معاوية، يمكن أن يتجرأ على خليفة، مثل علي، ويرفض مبايعته وينكر خلافته، ثم يخوض حربًا شاملة ضده.. وأخيرًا، وأكثر من ذلك، أن ينتصر عليه.
إن التفسير الأقرب إلى المعقولية، في اعتقادنا.. أن هذه المواجهة ما كانت لتتم، لولا تلك الوضعية “الجديدة” التي وجد المسلمون أنفسهم إزاءها أسرى التناقض في ما بين حماية الدعوة وحماية الدنيا.. أو بالأحرى: أسرى التناقض في ما بين الرسالة التي كانوا يحملونها ولا يريدون التخلي عنها، وبين المصالح المادية الكبيرة التي لا يمكنهم تجاهلها.
بل لا نغالي إذ قلنا: إن المواجهة، تلك، كانت قد تمت في إطار الالتباس العميق الحاصل ـحينذاك ـ في ما بين الأهداف والحوافز “السياسية”، وبين الأهداف والحوافز “الدينية”.
كيف؟… يتبع.