في مثل هذا الوقت من كل عام، تُسمَع أصوات الملبين في كثير من بقاع العالم؛ مرددين عبارات التلبية على مسامع القاصي والداني؛ كي ينتبه الناس إلى ذلك التجمع البشري الضخم الذي يزور كل عام، تلك الأرض القاحلة التي لم تبخل على رضيعٍ صغير، بشربة ماء مكنته من العيش إلى أن أدى مهمته وبلغ رسالته. فكم هي مؤثرة تلك الكلمات التي يرددها كل من لبَّى النداء بالحج، والتي يشاركهم في ترديدها كل مسلم بقلبه ولسانه. وكأن هؤلاء الحجيج في كل مرة يهتفون فيها بهذه العبارات بصوتٍ عالٍ أو يتمتم أحدهم بها بصوتٍ لا يسمعه سواه– تحيي في القلوب وجود الإله الحي القيوم القادر على الخلق والإحياء وعلى الإماتة والبعث، فهل هناك عبارات أخرى من الممكن أن نسمعها ويكون فيها مثل هذا التعظيم والتمجيد لرب العالمين الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء، ولم يلد ولم يولد، ولم تكن له صاحبة، ولم يكن له كفوًا أحد؟
فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك.
إنها التلبية التي يرددها الحجيج أثناء تأديتهم لمناسك الحج، والتي تتحرك على ألسنة المسلمين جميعا؛ شوقا للحاق بهم في البيت العتيق. ولقد أنشد تلك التلبية الكثيرون بالاستعانة بالموسيقى والألحان أو بالتخلي عن النغمات والآلات، والقارئ والمنشد الديني الكويتي الشيخ “مشاري بن راشد العفاسي” هو أحد أشهر المنشدين الحاليين وأعذبهم صوتا، والذي أنشد تلبية الحج بأكثر من شكل، لم يخل من الجودة والجمال حتى دون استخدام أية آلات موسيقية.
وفي مصر أنشدت تلبية الحج، في عدد من الأغنيات الدينية التي تميزت بعذوبة الألحان، دون أن تخلو من الوقار أو تفتقد إلى الروحانية، فكانت إسهامات الشعراء والملحنين والمطربين والمطربات خير دليل على ما يتمتع به الفن المصري من رقة وعذوبة، وما يحرص على تقديمه من قيمة فنية منحته البقاء والخلود، وجعلت مصر تتربع على عرش الفنون جميعها بلا منازع في الوطن العربي.. فتحيةً لكل فنان مبدع سواء كان مصري المولد والنشأة أو كان عربيًّا استقبلته أرض مصر؛ كي يصبح أحد فنانيها الكبار والخالدين.
والبداية مع أناشيد التلبية المغناة ستكون مع أنشودة “لبيك رب السماء” التي كانت واحدة من أهم القصائد الدينية التي كتبها الشاعر المصري “محمود حسن إسماعيل” [1910-1977م]، وقد كانت بعنوان: “بيت الله” وتضمنها ديوانه الشعري “صوت من الله”. والشاعر “محمود حسن إسماعيل” هو شاعر إنشاد ديني فذ قمنا من قبل بتقديم موجز عن قصائده الدينية المغناة في مقال سابق، أما ملحن أنشودة “لبييك رب السماء” التي أنشدتها قيثارة السماء الفنانة “سعاد محمد” [1926-2011م] فهو الموسيقار “أحمد صدقي” [1916-1987م] الذي لحن لها أيضًا أنشودة (أحب الله).
إِلَهِي سَعَيْنَا مَعَ الْمَوْكِبِ هُيَامًا إِلَى الْبَلَدِ الطَّيِّبِ، ظَمِئْنَا وَفُزْنَا بِحظِّ الْوُصُولِ وَمِنْ غَيْرِ نُورِكَ لَمْ نَشْرَبِ، ظَمِئْنَا فَقَرِّبْ إِلَيْنَا الرَّحِيق وَجُدْ بِالْمَتَابِ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ رَبَّ السَّمَاءِ فَقَرِّبْ خُطَانَا لأَرْضِ النَّبِيِّ، نَبِيُّ الْهُدَى وَرَسُولُ السَّلاَمْ وحَادِي الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الزِّحَامْ، حَمَلْتَ الْهِدَايَةَ لِلْحَائِرِينَ وَفَجَّرْتَ بِالنُّورِ قَلْبَ الظَّلاَمْ، وَكُنْتَ الْمَنَارَةَ لِلْعَالَمِينَ وَكُنْتَ الْكَرَامَةَ تَحْدُو الأَنَامْ، فَطُوبَى لِمَنْ زَارَ هَذَا الضِّيَاءَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ عليه السلام، وَلَمَّا نَزَلْنَا بِأَرْضِ الْهُدَى وَرَدَّ السَّلاَمَ حَمَامُ الْحَرَمْ، وَطُفْنَا مَعَ الشَّوْقِ حَوْلَ السُّتُورِ وَرُحْنَا بِأَرْوَاحِنَا نَسْتَلِمْ، دَعَوْنَا وَمَاذَا تَقُولُ الشِّفَاه إِذَا الرُّوحُ غَنَّتْ بِسِحْرِ النَّغَم، فَغَابَتْ ذُنُوبٌ وَذَابَتْ قُلُوبٌ مِنَ الْعَيْنِ تَسْكُبُ دَمْعَ النَّدَم، هُنَا النُّورُ يُشْرِقُ فِي كُلِّ عَيْنٍ هُنَا الْعِطْرُ يَسْبَحُ فِي الرَّوْضَتَيْنِ، هُنَا الرُّوحُ فِي عَتَبَاتِ الضِّيَاءِ وَفَوْقَ الصَّفَا وَعَلَى الْمَرْوَتَيْنِ، صَفَاءٌ يُعَطِّرُ كُلَّ الدُّرُوبِ وَطُهْرٌ يَفِيضُ عَلَى الْجَانِبَيْنِ، هُنَا مَهْبِطُ الْوَحْيِ مَنْ سَارَ فِيهِ سَرَى هَائِمَ الرُّوحِ فِي وَجْنَتَيْنِ.
https://www.youtube.com/watch?v=375ZD3hOfMo
أما كوكب الشرق السيدة “أم كلثوم” [1898-1975م] فقد شدت بأبيات “الثلاثية المقدسة” للشاعر “صالح جودت” [1912-1976م]، ومن ألحان الموسيقار “رياض السنباطي” عام 1972م. وقد بدأت تلك القصيدة بالتلبية التي تستوجب ضم الصفوف من أجل السير نحو هدفٍ واحدٍ، فكما يصلي المسلمون نحو قبلة واحدة فمن غير المعقول ألَّا تتوحد وجهتهم نحو غاية واحدة تجمعهم ويكرسون لها حياتهم وبها تعلو هاماتهم وجباههم التي لا تسجد إلَّا لإله واحد هو رب السماء.
رحاب الهدى يا منار الضياء، سمعتك في ساعة من صفاء، تقول أنا البيت ظل الإله، وركن الخليل أبي الأنبياء، أنا البيت قبلتكم للصلاة، أنا البيت كعبتكم للرجاء، فضموا الصفوف، وولُّوا الوجوه، إلى مشرق النور عند الدعاء، وسيروا إلى هدف واحد، وقوموا إلى دعوة للبناء، يُزكي بها الله إيمانكم، ويرفع هاماتكم للسماء، طلع البدر علينا، من ثنيات الوداع، وجب الشكر علينا، ما دعا لله داع، أيها المبعوث فينا، جئت بالأمر المطاع، يا عطاء الروح من عند النبي، وعبيرًا من ثنايا يثرب، يا حديث الحرم الطهر الذي يطلع النور به في اللهب، قم وبشر بالمساواة التي ألفت بين قلوب العرب، والإخاء الحق والحب الذي وحد الخطو لسير الموكب، والجهاد المؤمن الحر الذي وصل الفتح به للمغرب، أمة علَّمها حب السماء كيف تبني ثم تعلو بالبناء، فمضت ترفل في وحدتها، وتباهي في طريق الكبرياء، بيدٍ توسع في أرزاقها، ويدٍ تدفع كيد الأشقياء، سادت الأيام لما آمنت، أن بالإيمان يسمو الأقوياء، فإذا استشهد منهم بطل، كانت الجنة وعد الشهداء، من مهبط الإسراء في المسجد، من حرم القدس الطهور الندي، أسمع في ركن الأسى مريما، تهتف بالنجدة للسيد، وأشهد الأعداء قد أحرقوا، ركنًا مشت فيه خطى أحمد، وأبصر الأحجار محزونةً، تقول واقدساه يا معتدي، لا والضحى والليل إن ما سجى، وكل سيَّارٍ به نهتدي، لن يطلع الفجر على ظالم، مستغرق في حقده الأسود، سترجع الأرض إلى أهلها، محفوفة بالمجد والسؤدد، والمسجد الأقصى إلى ربه مزدهيًا بالركع السجد، ستشرق الشمس على أمة لغير وجه الله لم تسـجد.
كما لحن أيضًا المسيقار “رياض السنباطي” [1906-1981م] للشاعر المصري “عبد الله شمس الدين” [1921-1977م] الملقب بشاعر التوحيد أنشودة “لبيك يا ربي” التي شدت بها المطربة اللبنانية “فدوى عبيد” [1939-2022م].
لبيك يا ربي بالشَّوق والحب يا غافر الذنب يا قابل التوب لبيك يا ربي
يا واسع العفو بالدمع والشَّجْوِ واللحن والشَّدْوِ والروح والقلب لبيك يا ربي
صلَّى لك الفكر والسر والجهر يا من له الأمر في البعد والقرب لبيك يا ربي
هذه مصابيحي وذي تسابيحي في خلوة الروح في عالم الغيب لبيك يا ربي
هذي تَحَايَايَا في ليل نَجْوَايَا تشدو لِمَولايا أنشودة الصَّبِ لبيك يا ربي
يا مُنْزِلَ الذكر يَسِّرْ به أمري واشرح به صدري واكشف به كربي لبيك يا ربي
وفي المقال القادم ستكون لنا وقفة مع أناشيد التلبية التي تغنى بها ولحنها كلٌّ من الموسيقار “محمد عبد الوهاب” والموسيقار “محمد فوزي” رحمهما الله.