سعى رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، إلى التهدئة مع اليونان على خلفية رفض نيكوس ديندياس وزير الخارجية اليوناني، إجراء محادثات في العاصمة طرابلس مع حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة؛ حيث أكد محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي في بيان له الخميس 17 نوفمبر، حرص مجلسه على استمرار العلاقات الودية مع جميع الدول، التي تربطها بليبيا علاقات دبلوماسية “وفي طليعتها اليونان” بحسب البيان.
وكانت طائرة ديندياس قد غادرت مطار معيتيقة الدولي، في العاصمة الليبية طرابلس، بعد دقائق من هبوطها؛ بعدما رفض النزول من الطائرة، إلى قاعة كبار الزوار، حيث كانت في انتظاره وزيرة الخارجية في الحكومة منتهية الولاية نجلاء المنقوش.
ورغم تضارب التفسيرات حول هذا الموقف المفاجئ من الوزير اليوناني، إلا أن هذا الموقف، نفسه، قد فجّر أزمة دبلوماسية بين اليونان وحكومة طرابلس في غرب ليبيا.
خلفيات سياسية
في أول رد فعل لها، عبرت وزارة الخارجية في حكومة الدبيبة عن استيائها من هذا التصرف، مؤكدة في بيان لها -في نفس اليوم- أنها “ستتخذ الإجراءات الدبلوماسية المناسبة، التي تحفظ لدولة ليبيا سيادتها وهيبتها”. ومن الواضح، أن تصرف وزير الخارجية اليوناني يعود إلى عدد من الأسباب.. لعل أهمها ما يلي:
من جهة، تجاوز الاتفاق الدبلوماسي مع خارجية طرابلس؛ فأن يمكث ديندياس في طائرته 15 دقيقة، رافضًا مغادرتها، فهذا يعني الاعتراض على وجود نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية بحكومة الدبيبة في انتظاره.. ويبدو ذلك بوضوح من تغريدة، عبر حسابه على “تويتر”، بعد دقائق من إقلاع طائرته إلى بنغازي، حيث قال “ألغيت زيارتي إلى طرابلس، فقد كان من المقرر أن ألتقي رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وذلك لأن وزارة الخارجية خرقت اتفاقًا بعدم الاجتماع معهم”، في إشارة إلى حكومة “الوحدة” التي ترى اليونان أنها باتت “منتهية الولاية”.
والملاحظ أن التقاء الوزير اليوناني بالمنقوش، كان سيُعد “اعترافًا بحكومة الدبيبة”؛ وتغييرًا في نهج بلاده، خاصة أن وزيرة خارجية الدبيبة كانت تحاول “فرض الأمر الواقع على الوزير اليوناني”.
من جهة أخرى، عدم اعتراف اليونان بحكومة غرب ليبيا؛ حيث يأتي رفض الوزير اليوناني النزول من طائرته في العاصمة طرابلس، بمثابة رد فعل على السياسات الخارجية التي تتبعها حكومة الدبيبة، خاصة بعد توقيعها اتفاقًا مع تركيا للتنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط، قبالة الشواطئ الليبية. وفي وقت سابق، اعتبر الوزير أن ذلك الاتفاق غير قانوني ويزعزع الاستقرار” بل إنه في تصريحات متكررة، كما يذكر موقع “العربية. نت” 17 نوفمبر، قال “لا يحق لحكومة الدبيبة توقيع اتفاقيات دولية، لأنها لا تمثل الشعب الليبي”.
وتشهد العلاقات الثنائية بين طرابلس وأثينا توترًا، منذ 27 نوفمبر 2019، عندما وقعت حكومة “الوفاق” السابقة مع أنقرة اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية بينهما، لم تلق قبولًا من اليونان، التي رفضت أيضا مذكرة التفاهم التي وقعت قبل شهرين بين حكومة الدبيبة في طرابلس وأنقرة، تلك التي تمنح الإذن ببدء تركيا عمليات الاستكشاف والتنقيب في المياه الليبية، وضمن الحدود التي رُسّمت بين الطرفين من قبل.
صراع المتوسط
اللافت أن موقف وزير الخارجية اليوناني يُعبر – في أحد صوره- عن الانقسام الدولي تجاه الأطراف المنقسمة على الساحة الليبية؛ ففي الوقت الذي غادر فيه ديندياس مطار معيتيقة بالعاصمة الليبية، اعتراضا على وجود وزيرة خارجية حكومة الدبيبة، لأن بلاده لا تعترف بهذه الحكومة؛ إلا أن الوزير في الوقت نفسه، توجه إلى مدينة بنغازي شرق ليبيا، حيث التقى مع رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، وقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، إلى جانب مسئولين آخرين.
وهذا الموقف اليوناني، يختلف عن الموقف التركي الذي يأتي على النقيض تماما، حيث العلاقات التركية مع غرب ليبيا، والحكومات المتعاقبة فيها، تسير بشكل توافقي. ذلك الاختلاف الإقليمي بين تركيا واليونان إضافة إلى دول أخرى، يُعبر عن الصراع الدائر في شرق البحر المتوسط بخصوص الغاز الطبيعي؛ وهو الصراع الذي تتبدى مظاهره عبر أكثر من جانب.. لعل أهمها ما يلي:
من جانب، التموضع التركي في منطقة شرق المتوسط؛ إذ عبر رؤيتها في التعامل مع الأزمة الليبية من خلال مقاربة شاملة لأطرافها المختلفين – تحاول أنقرة تأكيد الحضور التركي في المشهد؛ وذلك في ظل التنسيق التركي مع ميليشيات مسلّحة في الغرب الليبي، بما يُعزز ليس فقط نفوذ تلك الميليشيات، ولكن أيضا التواجد التركي في غرب ليبيا. أضف إلى ذلك، مذكرة التفاهم التي وقعت بين حكومة الدبيبة وأنقرة، والتي ترتبط في مضمونها وسياق توقيعها، بصورة أو بأخرى، بالاتفاقية البحرية الموقعة بين ليبيا وتركيا، نهاية عام 2019، في عهد حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، التي كانت تحتاج إلى تسجيل لدى الأمم المتحدة، ولم يتم هذا الإجراء.
ومن وجهة النظر التركية، فإن هذا الاتفاق البحري يُعد ردًا على تعاون مصر وقبرص واليونان وإسرائيل، لاستخراج الغاز من قاع البحر وتصديره، عبر خطوط أنابيب إلى الأسواق الأوروبية. ومن ثم فإن الصفقة البحرية التركية – الليبية، تهدف إلى تعظيم مجال نفوذ أنقرة في شرق البحر الأبيض المتوسط. هذا، فضلًا عن منع بناء خط الأنابيب من دون إذن تركيا؛ إذ إنه من دون موافقة أنقرة، لا يمكن أن يمر خط أنابيب عبر المتوسط، في جانبه الشرقي.
من جانب آخر، مشروع أنبوب الغاز الليبي لمصر واليونان؛ فبعد أن أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، عن خطط جديدة لإنشاء أنابيب لنقل الغاز إلى كل من مصر واليونان، اتخذ الصراع الإقليمي على مصادر الطاقة الليبية، الذي احتدم في السنوات الأخيرة بين دول متوسطية عدة – منحىً مختلفا؛ بل إن أطرافًا كثيرة قد اعتبرت هذا المشروع، ردًا على الاتفاق الموقع بين تركيا وحكومة الدبيبة في طرابلس، في 3 أكتوبر الماضي؛ و هو الاتفاق الذي اعترضت عليه جهات متعددة محلية وإقليمية، ورأت فيه تعديًا من الطرفين على حقوق عدد من الدول المتوسطية، وتجاوزًا من حكومة “الوحدة” لصلاحياتها الممنوحة لها بموجب الاتفاق السياسي الليبي في جنيف، الموقع في عام 2020.
والخطة الجديدة، لمد خطي الغاز إلى مصر واليونان، التي كشف عنها رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة، في مقابلة تليفزيزنية مع قناة “سي إن بي سي” عربية، على هامش مؤتمر “أديبك 2022” في أبو ظبي، 31 أكتوبر الماضي، تطمح إلى بناء خطي أنابيب للغاز، إضافة إلى خط الأنابيب الحالي مع إيطاليا، أحدهما يمتد إلى اليونان عبر البحر المتوسط، والآخر يصل إلى محطات الغاز بمدينة دمياط في شمال مصر.
توتر إقليمي
في هذا السياق، يمكن القول بأن الأزمة الأخيرة بين أثينا وطرابلس ليست وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى الخلاف الحاد بين الطرفين، عقب توقيع حكومة “الوحدة” التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة مذكرة تفاهم للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية. ومن الواضح، أن مذكرة التفاهم، هذه، ستؤدي إلى إحياء الصراع في شرق المتوسط، باعتبار أن النزاع التركي – اليوناني على المياه الاقتصادية الإقليمية (صيد السمك)، يعود إلى ما قبل عام 2011؛ لكنه يتحول اليوم إلى صراع حول التنقيب عن الغاز والنفط.
وبالتالي، سوف تتدخل الدول التي تشترك مع ليبيا في شرق ساحل المتوسط، على غرار اليونان ومصر، فضلًا عن إيطاليا التي تعتبر “الجارة رقم واحد” بالنسبة إلى ليبيا، ما سيجعل ليبيا سببًا في صراع محتمل، خصوصًا في حال دخول فرنسا، التي تتنافس مع إيطاليا في ليبيا، على خط “غاز شرق المتوسط”؛ وهو ما سيجعل من ليبيا “بؤرة توتر” إقليمية.