في العام 1046، من الميلاد انخفض منسوب النيل انخفاضا شديدا، نَجَمَ عنه كارثة إنسانية، فقدت مصر خلالها نصف شعبها خلال خمس وعشرين سنة، فيما عُرف تاريخيا بالشدة المستنصرية، التي لم تكن نتاج تلك النائبة فقط، بل كان سببها الأهم والأبرز؛ تخاذل الخليفة ونزقه وإنفاقه الباذخ على الحملات العسكرية داخل مصر وخارجها، كذلك السفه في الإنفاق في شتى المناحي.
يذكر المقريزي أن حملة بدر الدين الجمالي على الشام، تكلفت نحو ألف ألف دينار، كما تكلفت حملة أخرى أرسلها المستنصر لقتال الجند السودان في صعيد مصر مليون دينار أخرى، وعندما عادت الحملة مدحورة وكان على رأسها ناصر الدولة ابن حمدان، وَجّهَ الأخير اتهامه للخليفة بدعم المتمردين السودان سرا وأجبره على دفع مليون دينار أخرى، والحقيقة أن التي كانت تدعم الجند السودان سرا، هي أم الخليفة المستنصر، وقد كبَّد هذا الصراع الداخلي الذي استمر لسنوات في شمال البلاد وجنوبها وكان برعاية فاطمية الدولة والشعب المكلوم ملايين الدنانير، فقد بالغ أولي الأمر آنذاك في رفع رواتب الجند التركي؛ حتى أنها رُفِعَت ذات مرة من ثمانية وعشرين ألفا إلى أربعمئة ألف دينار شهريا مرة واحدة.
أما حملة الشام التي استمرت لنحو خمسة عشر شهرا، فقد تكلفت ثلاثين مليون دينار ويزيد.. ضرب خلالها الزلزال مصر وفلسطين وانحسر البحر انحسارا شديد عن الساحل الفلسطيني؛ فخربت” الرملة” وسادت الفوضى.
ومع ذلك فلم تتوقف أطماع العسكر عند حد، ولم يتوقف اقتتالهم على المغانم ما دفع بهم إلى المطالبة بالمزيد من الأموال، ولم يجد المستنصر مفرا من استخراج كنوز أجداده ودفعها إليهم فكانوا يقدرون تلك الكنوز، بأثمان بخسة حين تدفع إليهم؛ حتى صار عقدٌ من اللؤلؤ لا يساوي سوى حفنة من دقيق، وحتى وصل الأمر بنساء البيت الفاطمي إلى الخروج من القصر للتسول، بينما كان الخليفة يأكل من صدقة أجرتها عليه الشريفة بنت صاحب السبيل.. حتى نفد مالها عن آخره.
“ولم يكن هذا الغلاء عن قصور مد النيل فقط، وإنما كان اختلاف الكلمة ومحاربة الأجناد بعضهم مع بعض”. هكذا وصف المقريزي بإيجاز مقدمات الكارثة؛ مؤكدا على أن سوء الإدارة وغياب الحكمة، وتكالب أمراء الجند على الثروات- كان السبب المباشر في وقوع تلك الكارثة.
ويذكر المقريزي أن الجند اقتحموا قصر الحكم، وهدموا حائطا واستخرجوا ما خلفه من الذخائر، وكانت سلاحا قُدّر وقتها بعشرين ألف دينار، وكان فيها من الرماح ما لا نظير له.. كُسرت وبيعت لصنّاع المغازل، حتى صار معظم ما في أيدي الغزالين منها!
حيال كل هذه الأحداث الجسام، لم يحرك المصريون ساكنا.. كأنما كانوا في سكرة يعمهون.. آثروا الموت جوعا على أن يواجهوا تلك الشراذم الوضيعة التي دفعت البلاد والعباد بأطماعها إلى الهلاك.. بقي المصريون مكتفين برصد الاقتتال والتنازع، وكأنّ الأمر لا يخصهم؛ فآلت الأمور إلى ما لا يمكن تصوره من القحط والجدب والمجاعة، حتى عزّت الأرزاق وأكل الناس الكلاب والقطط، واختطف الأطفال وأُكِلُوا، وصار من الشائع أن يُخْتَطَفَ الناس بالكلاليب من فوق الأسطح، ويذبحوا وتطهى لحومهم وتؤكل.. وكانت بداية هذا الأمر، عندما سرق ثلاثة رجال بغلة الوزير الأول، وأكلوها فقبض عليهم وصدر الأمر بشنقهم، وكان ذلك قرب المساء، فلما أصبح الناس وجدوا الجثث الثلاث قد أُكِلَت عن آخرها، ولم يبق منها سوى العظام التي كانت تلمع بيضاء في ضوء الشمس!
وكان المستنصر قد أمضى في الحكم ثلاثة عقود، عند وقوع تلك الكارثة؛ إذ كان قد تولّى، وهو ما يزال بعد حدثا في السابعة، وهذا ما يفسر تعاظم دور أمه في الحكم، وإسهامها غير المنكور في ما آلت إليه البلاد من الخراب منقطع النظير.. ومن المعروف أن المستنصر بالله لم يعدم الكياسة والفطنة في فترة من حكمه؛ حتى أن الدولة الفاطمية بلغت في عهده من القوة والاتساع والازدهار ما لم يبلغه أحد قبله، حيث امتد سلطانها ليشمل بلاد الشام وفلسطين والحجاز وصقلية وشمال إفريقيا، حتى بغداد حاضرة الخلافة العباسية دانت له قرابة العام، قبل وقوع تلك المصيبة بسبع سنين.
وكان ناصر الدولة ابن حمدان أحد أهم المتسببين في هذه النازلة، بما ارتكبه من جرائم، وبما سلبه من كنوز.. وليته اكتفى بذلك؛ بل أكمل جرائمه بمراسلة الأمير السلجوقي ألب أرسلان، طالبا منه غزو مصر، وإعادة الدعوة العباسية إليها، على أن يكون ناصر الدولة واليا على مصر من قِبَلِه.. ووافق ألب أرسلان وتحرك بجيوشه ودخل في طاعته حاكم حلب المعين من قبل المستنصر؛ لكن مهاجمة الروم لأطراف العراق اضطرته إلى الرجوع لقتالهم.
وكما جرت نهاية معظم الخونة عبر التاريخ، لقي ناصر الدولة مصرعه بعد أن تمرّد عليه اثنان من قادة الجند الترك هما “يلدكوش” و”إلدكز” بعد أن ألّبَا عليه الجند، متهمين إياه بالاستئثار بالمغانم هو وحاشيته دونهم؛ ليهاجم الجند قصره، ويذبحونه مع أخويه فخر الدولة وتاج المعالي، ثم يتعقب الجند بني حمدان بالقتل لفترة، حتى ينمحي أثرهم من مصر إلى الأبد.
لم يكن التخلص من ناصر الدولة إيذانا بهدوء الأوضاع بل إن الأمور زادت سوءا بعد تطاول الأميرين “يلدكوش” و”إلدكز”، ومعهما حليفهما الوزير ابن أبي كدينة على المستنصر، وإذلاله.. ما اضطره في النهاية لاستدعاء والي عكا بدر الدين الجمالي الذي تحرك من عكا نحو دمياط في مئة مركب وصلت بسلام.
استطاع بدر الدين الجمالي فور وصوله استمالة أمراء الجند حتى أمنوه تماما، ثم دعاهم ذات مساء إلى وليمة فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فأمر رجاله وكان قد سَمّى لكل واحد منه أميرا ليقتله، ويستولي على داره وأمواله وجواريه وغلمانه؛ فأعمل الرجال فيهم القتل فلم ينج منهم أحد.
استتب الأمر للجمالي، فأعاد النظام إلى القاهرة وفرض الأمن والسكينة في ربوعها، وامتدت يده إلى بقية أقاليم مصر فأعاد إليها الهدوء والاستقرار، وضرب على يد العابثين والخارجين، وبسط نفوذ الخليفة في جميع أرجاء البلاد.
ومع إعادة تنظيم شئون الدولة، انتعش الاقتصاد وعاد الفلاحون إلى الزراعة؛ بعد أن وَضَعَ بدر الدين عنهم الضرائب، وأصلح لهم الترع والجسور.. ومع الوقت زادت الأقوات وكثرت الحبوب وقلت الأسعار، فازدهرت التجارة، وعادت حركة التجار إلى مصر من كل حدب وصوب.
واتجه بدر الجمالي إلى تعمير القاهرة وإصلاح ما تهدم منها، فأعاد بناء أسوار القاهرة وبنى بها ثلاثة أبواب تعد من أروع آثار الفاطميين الباقية إلى الآن وهي: باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة، وشيّد مساجد كثيرة، فبنى في القاهرة مسجده المعروف بمسجد الجيوش على قمة جبل المقطم، وبنى جامع العطارين بالإسكندرية.
وقد استطاع هذا القائد العظيم أن يعيد سيطرة الدولة على كافة الأصقاع في الوجه البحري وجنوبا حتى أسوان وزاد خراج البلاد إلى نحو ثلاثة ملايين ومئة ألف دينار.
بقي المستنصر بعد انقضاء تلك الأحداث في الحكم لنحو ثلاثة وعشرين سنة، ليتم في حكم البلاد ستة عقود رأت مصر وأهلها فيها الأهوال.. بعد أن كانت قد استوفت شروط الفناء، التي تطل برأسها عبر الأزمان طالبة التحقق في فترات الاندحار والعجز وغيبة الرجال.