يأتي الاهتمام التركي بمنطقة الغرب الليبي، ليُعبر في مضمونه عن محاولات أنقرة بفرض “السيناريو القبرصي” على غرب ليبيا، وذلك في استغلال لحالة الانقسام السياسي والتقهقر الأمني، الذي تمر به ليبيا، منذ انهيار نظام القذافي. وفي سبيل اعتبارات المصالح التركية، سواء الخاصة بالنفط والغاز أو الاعتبارات الاقتصادية، تحاول أنقرة “الاستفراد” بالغرب الليبي، الذي يمثل لها أكثر من دلالة استراتيجية، بالنظر إلى فقر الموارد لديها، فضلاً عن حالة التراجع الاقتصادي الذي تمر به خلال السنوات الماضية. فكانت الاتفاقية البحرية الموقعة مع حكومة فائز السراج، والتي لحقتها مذكرة التفاهم الموقعة مع الحكومة المنتهية الولاية، حكومة عبد الحميد الدبيبة.
وقد أثارت مذكرة التفاهم هذه استياءً كبيرا لدى أطراف كثيرة داخلية وخارجية؛ خصوصا مجلس النواب (البرلمان) الليبي، وحوالي “ثلثي” مجلس الدولة (غرب ليبيا) محليا، ومصر واليونان والاتحاد الأوروبي على المستوى الإقليمي.
مُقاربات سياسية
أثار الاهتمام التركي بالحكومات الليبية، خاصة حكومات الغرب الليبي، حكومة الدبيبة ومن قبلها حكومة فائز السراج، مخاوف محلية وإقليمية من تحويل الجزء الغربي إلى منطقة تركية، عبر تكرار “السيناريو القبرصي” في ليبيا. فقد سبق وشهدت قبرص نزاعا تركيا يونانيا، في عام 1976، انتهى باقتطاع الجزء الشمالي منها لصالح تركيا، في عام 1983، في وقت بقيت فيه المنطقة الوسطى والجنوبية تابعين لليونان.
وفي ما يبدو، تُرتكز المحاولة التركية في “الاستفراد” بالغرب الليبي، على عدة مُقاربات سياسية.. أهمها ما يلي:
استغلال حالة الانقسام في المشهد الليبي:
في ظل وجود حكومتين على الساحة الليبية، ومجلسين تشريعيين، في غرب ليبيا وشرقها؛ ومع استمرار حالة الاحتقان السياسي وعدم وجود أية فرص أو بناء استحقاق جديد، يمكن التعويل عليه لحلحلة الأزمة المستمرة لسنوات؛ ومع عدم وجود خط تفاوضي يمكن أن ينطلق منه المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، للدخول على خط محاولة إجراء الانتخابات– تستغل أنقرة هذه الانقسامات، لتفرض وجودها في الغرب الليبي، وتوقيع عدد من الاتفاقيات مع الحكومات المنتمية إليه.
استغلال الصراع بين الأطراف الدولية للأزمة:
حيث إن ثمة مواقف متباينة لكبرى دول الاتحاد الأوروبي في ليبيا، وهي سياسات جزئية متعارضة في ما بينها، تستخدم فيها كل دولة قدرتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة، ومن ثم، ستظل ليبيا المجال الحيوي لصراع الدول الأوروبية الكبرى الأربعة: إيطاليا، بريطانيا، ألمانيا.. وفرنسا، إضافة قطعا إلى الولايات المتحدة، وروسيا.
ولعل ذلك ما يساعد أنقرة في استغلال تذبذب الموقف الدولي المتأثر بالحرب الروسية في أوكرانيا، التي ألقت بظلالها على الملف الليبي في أروقة مجلس الأمن الدولي؛ حيث يبدو الانقسام بوضوح بين التكتل “الروسي الصيني”، وبين التحالف “الأمريكي البريطاني الفرنسي” على إدارة الأزمة، كل حسب مصالحه.
من جهة أخيرة، تأكيد حالة الحضور التركي في المشهد الليبي؛ عبر رؤيتها في التعامل مع الأزمة الليبية من خلال مقاربة شاملة لأطرافها المختلفين، تحاول أنقرة تأكيد الحضور التركي في المشهد؛ بل تحاول الانفتاح على كل الأطراف، بدليل عقد اللقاء الذي جمع الرئيس رجب طيب أردوغان في أنقرة، في 2 أغسطس الماضي، مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ونائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي.
واللافت هو اتجاه تركيا لتمديد بقاء قواتها في ليبيا 18 شهرا إضافية، حيث تقدمت الحكومة إلى البرلمان التركي بهذا الطلب، الذي مُرر ووُفق على تمديده، بدءا من 2 يوليو الماضي؛ في ظل التنسيق التركي مع ميليشيات مسلحة في الغرب الليبي، بما يُعزز ليس فقط نفوذ تلك الميليشيات، ولكن أيضا التواجد التركي في غرب ليبيا.
اعتبارات المصالح
رغم أن مذكرة التفاهم تنص على “تعزيز التعاون بين الجانبين الليبي والتركي، في الجوانب العملية والفنية والتقنية في مجال الهيدروكربونات” حسب تصريحات المتحدث باسم حكومة الوحدة الوطنية محمد حمودة، إلا أن تركيا تسعى، عبر هذه المذكرة وغيرها، لتحقيق مصالح متعددة.. أهمها ما يلي:
أولا، محاولة تركيا السيطرة على الهلال النفطي؛ ففي المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيرته الليبية، نجلاء المنقوش، قال وزير الخارجية التركي “لقد وقعنا مذكرة تفاهم مع الجانب الليبي في مجالات الهيدروكربونات والتبادل التجاري”؛ مؤكداً على أن مذكرة التفاهم “تشمل التنقيب عن النفط والغاز بحرا وبرا، عبر شركات ليبية – تركية مشتركة”.
وتعتقد تركيا، التي تحاول الدخول على خط الموارد الليبية، في النفط والغاز، أنه رغم الصعوبات المتعددة، التي سوف تواجهها على المستوى الإقليمي، خصوصا من جانب دول الجوار الجغرافي الليبية، وفي مقدمتها مصر واليونان، إلا أنها ما لم تقم هي وحليفتها الليبية بالسيطرة على الهلال النفطي، فإنها لا يمكنها الجلوس على طاولة المفاوضات في أي مشروع لحلحلة الأزمة الليبية.
ثانيا، محاولة تركيا جني المكاسب الاقتصادية؛ إذ إضافة إلى الجانب الهيدروكربوني، فإن ليبيا تشكل فرصة واعدة للأعمال التركية، التي تتراوح بين البناء وصناعات الطاقة والصناعات العسكرية، والتي تصل إلى حوالي 20 مليار دولار، كما يذكر جنكيز تشاندار في دراسة له (مجلة الدراسات الفلسطينية: خريف 2020)، الأمر الذي يُعوض بعض خسائرها الاقتصادية الفادحة، جراء تدخلها العسكري في شمال سوريا والعراق، ويُنعش اقتصادها الذي يُعاني من أزمة تفاقمت خلال السنوات الماضية.
وهكذا، تبدو ليبيا، بإمكاناتها الاقتصادية، كأنها “سترة نجاة” للنظام التركي الذي يعتمد في بقائه على ما سيكون عليه اقتصاد البلاد.
دلالات استراتيجية
ضمن أهم الدلالات الاستراتيجية، من وراء الإصرار التركي على “الاستفراد” بل و”التحكم” في الغرب الليبي.. تأتي الدلالات التالية:
فهناك، التموضع التركي في منطقة شرق المتوسط؛ حيث ترتبط مذكرة التفاهم التي وقعت بين حكومة الدبيبة وأنقرة، في مضمونها وسياق توقيعها، بصورة أو بأخرى، بالاتفاقية البحرية الموقعة بين ليبيا وتركيا، مطلع عام 2020، في عهد حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، التي كانت تحتاج إلى تسجيل لدى الأمم المتحدة، ولم يتم هذا الإجراء.
ومن وجهة النظر التركية، فإن هذا الاتفاق البحري يُعد ردا على تعاون مصر وقبرص واليونان وإسرائيل، لاستخراج الغاز من قاع البحر وتصديره، عبر خطوط أنابيب إلى الأسواق الأوروبية. ومن ثم، فإن الصفقة البحرية التركية – الليبية، تهدف إلى تعظيم مجال نفوذ أنقرة في شرق البحر الأبيض المتوسط. هذا، فضلاً عن منع بناء خط الأنابيب من دون إذن تركيا؛ إذ إنه من دون موافقة أنقرة، لا يمكن أن يمر خط أنابيب عبر المتوسط، في جانبه الشرقي.
وهناك أيضا الطموحات التركية وعقيدة “الوطن الأزرق”؛ فالملاحظ، أن تركيا تعتبر أن من حقها التمدد على طول 600 كم من ساحل البحر المتوسط، معتبرة أن الجرف القاري الخاص بها يصل إلى ليبيا؛ وأنه يعبر بين جزيرتي كريت ورودس اليونانيتين. هذه “الحجة” التركية، جرت صياغتها، في الواقع، في ما أُطلق عليه عقيدة “الوطن الأزرق”؛ تلك التي تشير إلى أن كل شبر من البحار تمارس فيه تركيا حقوقها السيادية، هو مقدس، تماما مثل كل شبر من أراضي البلاد، فهو جزء من الوطن.
وعقيدة “الوطن الأزرق”، هذه، التي صاغها وطورها ضباط أتراك “كماليون قوميون متشددون”، في عام 2006، وأصبحوا بسببها شركاء أردوغان، ينبني عليها الأهداف التركية الجغراستراتيجية في شرق المتوسط، والتي أدى السير بها إلى إبرام الاتفاقية البحرية مع حكومة السراج، في نوفمبر 2019.
صراع إقليمي
ويمكن القول أن ما ينتظر ليبيا أخطر بكثير من “السيناريو القبرصي”، الذي تحاول تركيا أردوغان فرضه على غرب ليبيا، عبر الاتفاقيات الموقعة بين أنقرة وحكومات السراج والدبيبة. وهو سيناريو لن يُكتب له النجاح، لأن وضع ليبيا يختلف تماما عن قبرص، حيث كانت الأرض هي محور الصراع بين اليونان وتركيا.
إلا أن مذكرة التفاهم التي وقعت عليها حكومة الدبيبة وأنقرة، ستؤدي إلى إحياء الصراع في شرق المتوسط، باعتبار أن النزاع التركي – اليوناني على المياه الاقتصادية الإقليمية (صيد السمك)، يعود إلى ما قبل عام 2011؛ لكنه تحوّل اليوم إلى صراع حول التنقيب عن الغاز والنفط. وبالتالي سوف تتدخل الدول التي تشترك مع ليبيا في شرق ساحل المتوسط، على غرار اليونان ومصر، فضلا عن إيطاليا التي تعتبر “الجارة رقم واحد” بالنسبة إلى ليبيا، ما سيجعل ليبيا سببا في صراع محتمل، خصوصا في حال دخول فرنسا، التي تتنافس مع إيطاليا في ليبيا، على خط “غاز شرق المتوسط”.