في أوائل القرن التاسع عشر كانت بلاد اليونان تحت حكم العثمانيين، لكن الدول الأوربية وخاصة روسيا، رأت أن من مصلحتها إثارة الفتن في عموم بلاد اليونان؛ فدعمت إنشاء الجمعيات والتنظيمات السرية التي تعمل على بث روح التمرد والعصيان في نفوس الشعب اليوناني ضد الحكم العثماني؛ حتى بلغ عدد منتسبي تلك التنظيمات عام 1821، ما يربو على العشرين ألفا يحملون السلاح، هدفهم تحقيق الاستقلال.
ثم كان أن عمّت الثورة أنحاء البلاد على يد أعضاء جماعة ثورية تدعى هيتريا، بدعم مباشر من القيصر الروسي، وكان ذلك في مارس من عام 1821، لكن تركيا واجهت الثوار عند الدانوب وهزمتهم وبددت جموعهم، فهبّت ثورة ذات طابع ديني في بلاد الموره كلها، وقطع الثوار طريق السفن التركية، وفي البر استولوا على تربوليستا، ونكّلوا بالأتراك.. ثم ألّفت جمعية وطنية من ستين نائبا أعلنوا استقلال البلاد، ووضعوا الدستور.
وخلال عامين من المعارك بين الأتراك والثوار.. استطاع اليونانيون فرض سيطرتهم على الأرخبيل وأحرقوا عددا هائلا من السفن، وأعادوا زمن القرصنة.
استعان السلطان بمحمد علي لدحر الثوار، فتحركت 16 سفينة كاملة العتاد عليها 800 جندي من الإسكندرية والتقت الأسطول التركي في الدردنيل، ثم عادت لنقل الحملة إلى كريت.
وفي كريت حارب المصريون، الثوار لنحو عام إلى أن دانت لهم السيطرة على الجزيرة، كما أخمدوا الثورة في قبرص.
ورأى السلطان محمود أن يورّط محمد علي في حرب الموره أكثر، فعينه واليا عليها داعيا إياه لتجريد حملة عسكرية كبيرة لإنهاء الثورة في بلاد اليونان.
عهد الباشا بقيادة الحملة إلى إبراهيم باشا بطل الحجاز، فتحرك في نحوٍ من مئتي سفينة على متنها سبعة عشر ألفا من المشاة ونحو سبعمئة فارس.. وكانت الحملة من الضخامة والتجهيز حتى وصفها البعض بغزوة الشرق على الغرب.
والتقى الأسطولان المصري والتركي على شاطئ الأناضول، وكان الفرق بينهما واضحا من حيث التنظيم والاستعداد، بعد الأهوال التي كابدها الأسطول التركي من الثوار في الأرخبيل.
ومع أول المعارك في بودروم، لاذ الأسطول التركي بالفرار، وثبت إبراهيم باشا إلى أن استطاع رد السفن اليونانية وإجبارها على التقهقر في سبتمبر 1824، لكنه فقد سفينتين عند جزيرة ساقز في الشهر التالي، ما اضطره للعودة إلى بودروم ومنها إلى مرمريس فكريت، ليصلها أواخر العام بعد خمسة أشهر عصيبة من القتال الشرس، قرر بعدها أن يواجه اليونانيين في البر.. فتحيّن إبراهيم فرصة تمرد البحارة اليونان لتأخر رواتبهم، وتوجه بالأسطول إلى مودون جنوبي الموره ونزل بقواته هناك في فبراير 1825، وكان الأتراك محاصرون في كورون، فتحرك إليها وفك الحصار.. ثم حاصر نفارين التي تحصن بها الثوار، واستطاع المصريون الانتصار في معركتين متتاليتين، أثبت فيهم إبراهيم باشا براعة فائقة، وأفشل محاولات الثوار في فك الحصار الذي ضربه حول نفارين.
كان لهزائم نفارين على اليونانيين وقع الصاعقة، ولم يكن هناك بُد من احتلال جزيرة أسفاختريا الاستراتيجية، فتحرّك إليها سليمان باشا الفرنساوي في قوة من 1200 جندي استطاعوا احتلال الجزيرة بعد معارك بطولية.
ثم كان الدخول المظفر إلى نفارين في 18 مايو 1825، بعد استسلام اليونانيين تحت وطأة الحصار الشديد، ما اعتبر أعظم انتصار للشرق على الغرب في العصر الحديث بقيادة البطل الفذ إبراهيم باشا.. ولم يَفُتّ من عضد القائد ورجاله احتراق عدد كبير من سفن الأسطول المصري في مودون، بعد هجوم يوناني ساعدته سرعة الرياح.. ثم كان الانتصار المصري التالي في كالاماتا التي تحصن بها الثوار بعد الخروج من نفارين، وبعد فتح المدينة توجه إبراهيم باشا إلى ما حولها من الحواضر والقرى ففتحها ومنها إلى آركاديا فدخلها دون مقاومة تذكر.
ومع قدوم صيف عام 1825، كانت عاصمة الموره تربوليستا قد دانت للقوات المصرية بعد أن أخلاها المتمردون وأحرقوها واعتصموا بالجبال.. وتوالت الانتصارات المصرية المذهلة في أرجوس ووادي لوكونيا وباتراس، حتى دانت لإبراهيم بلاد اليونان بكاملها عدا نويلي عاصمة الحكومة الثورية؛ فتأهب لحصارها.. لكنه عدل مؤقتا عن ذلك استجابة لاستنجاد رشيد باشا قائد القوات التركية، الذي ألح عليه ليشاركه في حصار ميسولونجي المدينة المنيعة التي طال حصار الأتراك لها.
أطلع إبراهيم والده على ما أنجز واستنجاد رشيد باشا؛ فأرسل محمد علي إليه بالمدد، فترك سليمان باشا في تربوليستا قائدا عاما وتحرك نحو ميسولونجي في عشرة آلاف جندي مشاة وخمسمئة فارس.. انضموا إلى القوات التركية، وحاول إبراهيم حقن الدماء ودعا المتحصنين إلى الاستسلام، لكنهم لم يستجيبوا وجرت عدة معارك انتهت بسقوط المدينة في أيدي القوات المصرية والتركية، بعد خسائر كبيرة في الأرواح من طرفي المعركة.. حتى أن ألفي قتيل مصري سقطوا في الهجمة الأخيرة على المدينة قبل سقوطها.
أعقب ذلك حصار الأتراك لأثينا ودخولها دون كبير مقاومة في يونيه عام 1827.. ثم قرر محمد علي إرسال حملة جديدة للقضاء على آخر معاقل الثوار في جزيرتي هيدرا واسبتزيا، ونويلي.
أقلعت الحملة من الإسكندرية في أوائل أغسطس 1827، ووصلت نفارين في التاسع من سبتمبر، بالتزامن مع وصول أسطول تركي آخر.. وتولى إبراهيم باشا القيادة العامة للقوات.. وتجمعت قوات اليونانيين وحلفاؤهم في جزيرتي هيدرا وترميا.. وراسل قادة الحلفاء إبراهيم باشا مطالبين إياه بالكف عن إرسال الأسطول إلى هيدرا، ورفض إبراهيم تهديداتهم وقرر البقاء بالقوات في نفارين حتى تصله تعليمات الباب العالي ووالده.
وحدثت هدنة بين الجانبين سرعان ما خرقها الثوار، فلم يكن أمام القائد إلا التحرك برا إلى داخل الموره لنجدة الحاميات المصرية، وشدد على قادة الأسطولين المصري والتركي بعدم الاستجابة لاستفزازات الحلفاء.
ثم تجمعت سفن الحلفاء في نفارين لمهاجمة الأسطولين المصري والتركي وكان اقتحامهم للبوغاز في الثانية من ظهر يوم 20 أكتوبر عام 1827، وانتهت المعركة في غضون ساعات بهزيمة المصريين والأتراك بعد عدد من المناورات التي أدارها الساسة الأوروبيون بلا أدني قدر من الشرف العسكري.
يروي الرافعي المشهد الاخير من تلك الملحمة بقوله: “لم يشهد إبراهيم باشا واقعة نافارين، إذ كان أثناء وقوعها داخل بلاد (موره) يعمل على إخضاعها، فلما بلغه تدمير العمارة المصرية عاد إلى نفارين وشهد بنفسه آثار الواقعة، فحزن لها حزنا شديدا، ثم أمر بإعداد بعض السفن التي نجت من الكارثة وتعويم بعض التي غرقت وأنقذها إلى الإسكندرية، ثم رأى أن يلزم خطة الدفاع، فأخلى مدن الموره، وامتنع بمعظم جنوده في ثغري كورون ومودون حتى يأتيه أمر أبيه.
وكانت العودة إلى مصر في أكتوبر 1828، بعد خسارة الأسطول المصري.. و كان المكسب الوحيد هو ضم جزيرة كريت لحكم محمد على.. بعد انتهاء جولات من أهم جولات الصراع بين الشرق والغرب في العصر الحديث، وهي جولات ما تلبث أن تنتهي إلا لتعود من جديد.