تداولت جهات إعلامية وبحثية دولية، معلومات تُفيد بموافقة إريتريا على إقامة قاعدة روسية على البحر الأحمر، تعزيزًا للعلاقات المشتركة مع موسكو، التي شهدت طفرة نوعية بعد تصويت أسمرة ضد قرار دولي في الأمم المتحدة، في مارس 2022، يقضي بفرض عقوبات على روسيا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
وكانت تصريحات سيرغي لافروف، في ختام زيارته إلى إريتريا، أواخر يناير الماضي، قد أعادت الجدل حول دوافع الطموح الروسي لإقامة قاعدة، أو مركز لوجيستي، في الساحل الإريتري على البحر الأحمر؛ خاصة بعد توقيع لافروف، خلال الزيارة، اتفاقية تفاهم ثنائية مع نظيره الإريتري عثمان صالح، لربط مدينة مصوع الإريترية على ساحل البحر الأحمر مع مدينة سيفاستوبول الروسية على ساحل البحر الأسود.
أهداف متشابكة
اللافت أن موسكو تسعى إلى إيجاد دور أكبر لها، خلال الفترة المُقبلة، في إريتريا، من منظور أن هذه الأخيرة يمكن أن تُمثل “موضع قدم استراتيجي” لها، ومنطلقًا لحضور روسي أكبر في منطقة القرن الأفريقي، وفي مداخل البحر الأحمر.
ويمكن الإشارة إلى أهم الأهداف التي تقف وراء السعي الروسي لإقامة قاعدة عسكرية في إريتريا.. كما يلي:
فهناك، موقع إريتريا الاستراتيجي في القرن الأفريقي؛ حيث تبدو المساعي الروسية لاستغلال إمكانات ميناء مصوع الإريتري، نظرًا لما تتمتع به إريتريا من موقع استراتيجي متميز في شرق أفريقيا؛ إذ، تمتلك إريتريا ساحلًا ضخمًا يمتد على طول 800 كيلو متر بحري، علاوة على ما تمتلكه إريتريا من عدد هام من الجزر المُطلة على البحر الأحمر، يصل إلى 126 جزيرة، من بينها جزيرتا “حالب” و”فاطمة” وهما الأكثر أهمية لوقوعهما أمام مضيق باب المندب، فضلًا عن وقوعهما أمام أرخبيل حنيش، البالغ عدده 43 جزيرة، الذي يتبع “اليمن”، كما تطل جزرها على الجزر السعودية، بما يُزيد من عمقها الاستراتيجي بالنسبة للخليج العربي، والمنطقة العربية.
ومن ثم، فإن المسعى الروسي، في حال إتمامه، سيسمح لموسكو، ليس فقط بتعزيز الحضور في مداخل البحر الأحمر وباب المندب، وهي منطقة بالغة الأهمية لحركة التجارة العالمية، وقريبة من شرايين اقتصادية حيوية في العالم، مثل منطقة الخليج العربي وقناة السويس؛ ولكن، إضافة إلى ذلك، يُعزز مساعي موسكو للتغلغل نحو العمق الأفريقي في شرق وجنوب القارة.
كما أن هناك تأمين الارتكاز البحري لموسكو في البحر الأحمر؛ فالمُلاحظ، أن الحضور العسكري في إريتريا، إنما يؤشر إلى المحاولة الروسية في تأمين الارتكاز البحري لموسكو في مداخل البحر الأحمر، ما يساهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية؛ وبما يعني فرض روسيا لنفسها كـ”لاعب متحكِّم” في معادلات الطاقة الجديدة، التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.
إضافة إلى ما يُمكن أن يُتيحه هذا الحضور من تعزيز الأسطول الروسي لموقعه البحري في المحيط الهندي؛ بما يوفر مرفقَّا آخر للمياه الدافئة، إلى جانب قاعدة طرطوس في سوريا، حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد والخدمات اللوجستية المختلفة؛ هذا، فضلًا عن تقوية الدور الروسي كـ”منافس”، في المناطق التي تحوي مخزون كبير من النفط والغاز مثل الصومال وإثيوبيا.
أيضًا، هناك التعاون الأمني والعسكري في شرق أفريقيا؛ إذ، نتيجة محدودية قدرات موسكو الاقتصادية، قياسًا بمنافسيها الرئيسيين، الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقد مثَّل سوق الخدمات الأمنية والعسكرية أبرز أوجه الحضور الروسي أفريقيًا، ومدخلًا لتوسيع نفوذها الجيوسياسي ومكاسبها الاقتصادية من القارة السمراء.
وضمن هذا الإطار، يندرج الحديث عن محاولات موسكو إقامة قاعدة عسكرية في أفريقيا، وعلى شواطئ البحر الأحمر تحديدًا. فمن جهة، تسعى موسكو لحماية شحناتها التجارية والنفطية؛ إذ، يبلغ حجم الصادرات الروسية النفطية، بحسب تقرير لمؤسسة “راند” الأمريكية، نُشر في ديسمبر الماضي، حوالي 24 % من إجمالي حركة النفط المتجهة جنوبًا إلى البحر الأحمر مرورًا بقناة السويس ومضيق باب المندب.
كما يمكن لموسكو، من جهة أخرى، الترويج لصادراتها التسليحية في منطقة القرن الأفريقي، التي يُنظر إليها بأنها منطقة مضطربة أمنيًا، وذلك باعتبار روسيا موردًا رئيسيًا للأسلحة في أفريقيا، حيث إن الصادرات العسكرية الروسية للقارة مثلت 18 % من إجمالي صادراتها من الأسلحة، في الفترة ما بين عامي 2016 و2020، بحسب تقرير “سيبري” لعام 2020.
كذلك، هناك تحقيق عدة مكاسب متبادلة بين موسكو وأسمرة؛ حيث إن خطوة التعاون الروسي الإريتري، عبر إقامة قاعدة عسكرية روسية في الساحل الإريتري على البحر الأحمر، أو في الحد الأدنى إنشاء مركز دعم لوجيستي في ميناء مصوع؛ تتضمن تحقيق عدد من المكاسب المتبادلة بين موسكو وأسمرة. فعلى الجانب الروسي، تساهم هذه الخطوة في تعزيز مكانة روسيا إقليميًا ودوليًا، إضافة إلى أن وجودها في أحد أهم المضائق المائية الاستراتيجية، سيمثل ورقة ضغط مهمة لمساومة الولايات المتحدة والغرب في بعض الملفات الشائكة، لاسيما ملف أوكرانيا.
أما على الجانب الإريتري، سوف تُخفف هذه الخطوة عن أسمرة حدة العزلة الدولية التي تعانيها؛ فضلًا عن إنها سوف توفر للنظام الإريتري حليفًا دوليًا، بما يُمكنه من مواجهة الضغوط الأمريكية والأوروبية، لاسيما في ضوء التوتر في علاقته بالولايات المتحدة، على خلفية تورط القوات الإريترية في حرب تيغراي إلى جانب القوات الإثيوبية؛ وهو التوتر الذي برز بشكل واضح في تجاهل واشنطن دعوة الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، لحضور القمة الأمريكية الأفريقية، التي انعقدت في ديسمبر الماضي.
وأخيرًا، هناك السعي إلى الدعم السياسي والتعاون الاقتصادي؛ فالملاحظ، أن أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لروسيا، من وراء سعيها لتقوية نفوذها في إريتريا، هو محاولتها تأسيس نظام أمن إقليمي يحمي مصالحها، في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بهدف خدمة أهدافها في شرق أوروبا وشرق المتوسط؛ إلى جانب التهرب من حزمة العقوبات الغربية المفروضة عليها، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل أكثر من عام. هذا، فضلًا عن السعى إلى كسب الدعم السياسي، خاصة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، عبر التحركات التي يقوم بها وزير خارجيتها، من خلال عدد من جولاته، خاصة في القارة الأفريقية، والتي كانت زيارته إلى إريتريا، في يناير الماضي، في مقدمتها.
كذلك، يُمثل التواجد الروسي على سواحل البحر الأحمر فرصة لتعزيز تجارتها مع دول القرن الأفريقي، بما في ذلك إريتريا، وإمكانية التمدد لتنشيط الصفقات التجارية مع دول وسط أفريقيا. أضف إلى ذلك، إمكانية أن تخوض موسكو سباق التنافس على الاستكشافات النفطية والغازية في منطقة القرن الأفريقي؛ خاصة أن ثمة تقديرات تُشير إلى استحواذ بعض دولها، مثل الصومال وإثيوبيا، على مخزون كبير من احتياطي النفط والغاز.
ورقة رابحة
في هذا السياق، يمكن القول بأن التواجد الروسي في ميناء مصوع الإريتري، على ساحل البحر الأحمر، يُعد بمثابة “ورقة رابحة” تستطيع من خلالها موسكو التمدد نحو العمق الأفريقي، والدفع في اتجاه تعزيز علاقاتها مع دول القرن الأفريقي والبحيرات العظمى. إضافة إلى محاولة بناء قواعد عسكرية، أو قواعد لوجيستية، في دول المنطقة، مثل جيبوتي والسودان وإقليم أرض الصومال. لكنها قد تصطدم، وهذا احتمال متوقع، باحتكاك متزايد مع القوى الدولية المنافسة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، فضلًا عن إيطاليا، وإلى حد ما الصين، مما سوف يعزز التنافس الدولي في هذه المنطقة خلال الفترة المقبلة.