إن إبداع الشاعر عبد الفتاح مصطفى في التأليف الدرامي، وفي كتابة الشعر الغنائي الديني، وكتابة السيناريو والحوار للأعمال الدينية – كان يعبر عن ثقافته الإيمانية، وعن اتجاهه نحو الزهد والتعمق في الدين، وعن امتلائه بالرغبة في التعبير عن جوهر الإسلام، الذي ترسّخ في وجدانه؛ ولذلك كانت حياته مقسمة، بين العمل والقراءة والتأليف والكتابة، دون انكباب على الشهرة والأضواء مع التركيز على اختيار الكلمات التي تمس القلوب، وتحيي فيها الإيمان.
إنها البساطة التي لا تخلو من العمق، إنه ذلك الحب الإلهي الذي فاض به قلبه؛ فأزهر أبيات بالفصحى وعبارات بالعامية، ما بين ابتهالات وأدعية وأغنيات وجمل حوارية، لم تفارق الأذهان وستظل تتردد على الألسنة؛ فتخشع لها القلوب وتستكين لها النفوس.
“يارب سبحانك كل الوجود معجزة تشهد بسر الله…، ويارب أنا من تراب والإرادة هي سرك فيه تنوّره بحكمتك وبرحمتك تهديه، الهمني حب الخير حب الجمال والحق خليني أقول للشيطان مهما غواني لأ، علمني أثبت ولو زال الجبل وانشق…، وفي ناس بتخلق من الألم قوة وناس بتخلق من الدموع سكة بتمشي عليها بعديهم خلايق مؤمنة بيهم…، وعالتوتة والساقية ألمح كل يوم عصفور فرحان يغني ويرقص للندى والنور لا مال ولا جاه ورزقه في الغيطان مبدور، ماله كفيل أو معين في المُلك غير الله…، ويارب أدعوك يا سامع دُعايَا يا عالي فوق كل غاية يا عالم السر وحدك والكل لك في النهاية يارب، اجعلني صادق وأقول الحق لو كان مُر، علمني ما سمعش إلَّا صوت ضميري الحُر”.
إنها الكلمات التي نظمها الشاعر عبد الفتاح مصطفى، بالعامية المصرية وأنشدها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، من ألحان الموسيقار محمد الموجي في منتصف الستينيات من القرن الماضي؛ لتكون هي مجموعة الأدعية والابتهالات الدينية التي تفرَّد بها هذا الثلاثي الفني، وما زالت ذات بريق يضفي عليها المزيد من الخشوع كلما أذيعت وأنصتت إليها الآذان وارتجفت لها الأوصال.
https://www.youtube.com/watch?v=Gppz5_FA_II
أما في أوائل عقد السبعينيات من القرن الماضي؛ فقد أثمر التعاون الفني بين الشاعر عبد الفتاح مصطفى، والملحن بليغ حمدي مجموعة من الابتهالات الدينية باللغة العربية الفصحى، أنشدها الشيخ النقشبندي وبطانته، وكانت بمثابة نقلة في إنشاد الابتهالات الدينية المغناة، واكبت التطور الموسيقي في تلك الفترة الزمنية، وقدَّمت الشيخ المتصوف في ثوب جديد.
وكثير من هذه الابتهالات، كان يدور حول اتحاد المسلمين، واستدعاء روح النصر على الأعداء مثل: أقول أمتي، وأخوة الحق، وربنا كن لنا نِعم المعين، وحمدًا لك اللهم، ويارب إنا أمة. وكان منها أيضًا ابتهال في مدح الرسول الكريم بعنوان عليك سلام الله، وآخر في ذكرى الهجرة بعنوان يا دار الأرقم، وثالث في ذكرى بدر بعنوان ما أعظم الذكرى، ورابع في ذكرى الإسراء هو ابتهال أي سلوى وعزاء.
كما كان على رأس تلك الابتهالات ابتهال (مولاي) الذي لحنه الموسيقار بليغ حمدي من مقام بياتي القريب إلى القلوب، وكانت الإذاعة المصرية تحرص على إذاعته عقب أذان المغرب في رمضان. “مولاي إني ببابك قد بسطت يدي، من لي ألوذ به إلَّاك يا سندي؟! أقوم بالليل والأسحار ساجية، أدعو وهمس دعائي بالدموع ندي، بنور وجهك إني عائذٌ وجِلٌ، ومن يعذ بك لن يشقى إلى الأبد …”.
أما عن ليلة القدْر التي يحين الاحتفاء بها في العشر الأواخر من شهر رمضان، فقد أنشد لها الشيخ النقشبندي ابتهالًا من بين تلك الابتهالات التي كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى ولحنها الموسيقار بليغ حمدي وكان بعنوان (يا ليلةً في الدهر).
كما أعاد الشيخ النقشبندي تقديم ابتهال (مناجاة) بعنوان جديد هو (رباه يا من أناجي)، وهي العبارة التي بدأ بها الابتهال الذي سبق وقدمه الشاعر عبد الفتاح مصطفى من قبل.
“رباه يا من أناجي في كل هذا الوجود، يا من له الروح تسمو حُبًّا وراء القيود، كلما ازددت قربًا أيقنت أني بعيد، أراك في كل شيء ولا أراك بشيء فأنت في عين قلبي لكن بعيني خفي، وأنت ربي قريبٌ وأنا البعيد القصي، لو تسبق الحُبَّ روحي لذاب مني الفؤاد، من ذا سواك حبيبي؟ أنت الحبيب المراد، أحببت باسمك ذاتي، أحببت حتى الجماد، مولاي حبي شفيعي وقد رجوت قبولك، وآية الحب مني أنى اتبعت رسولك، قصَّرتُ فاغفر ذنوبي إن ما عدوت سبيلك”.
فابتهال (مناجاة) أو (رباه يا من أناجي) الذي برع فيه الشيخ النقشبندي وبطانته وأبدع الفنان بليغ حمدي في موسيقاه كان هو نفسه الابتهال الذي سبق وأنشدته المطربة نازك من ألحان الموسيقار أحمد صدقي بنفس كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى ذات البصمة المميزة والتي لم تزل خالدة وستظل موحية ومؤثرة في النفوس.
وبخلاف تلك الابتهالات الدينية التي لم يُقدَّم بعد ما ينافسها في روحانية الأنغام أو عمق وجاذبية الكلمات، وليس هناك من صوت يتمكن من إنشادها بقدرة أو عذوبة تضاهي تلك الأصوات التي برعت في إنشادها بإحساس وصدق؛ فإن الشاعر الغنائي عبد الفتاح مصطفى كان له تاريخ محفور في الذاكرة من الأعمال الدرامية التي سنلقي عليها الضوء في المقال القادم.