في بداية مايو الجاري، وضمن محاولاتها للخروج من أزمتها الاقتصادية الراهنة، ونقص التدفقات الدولارية – أعلنت الحكومة المصرية عن توجهها للتفكير جديا بالاستيراد من دول باعتماد عملاتها المحلية والجنيه المصري.. على رأس هذه الدول تأتي الصين والهند وروسيا؛ لكن الأمر لم يحرج بعد لحيز التنفيذ.
قبل نحو شهر من هذا التصريح، أعلن وزير التجارة الهندي سونيل بارثوال أن بلاده تعرض عملتها الروبية بديلا في التعاملات التجارية على الدول التي تواجه نقصا في الدولار.. وقد أبدت عدة دول من بينها مصر اهتماما بالتداول بالعملة الهندية.
وكانت موسكو قد أدرجت قبل أشهر؛ الجنيه المصري على قائمة العملات الأجنبية التي يحدّد بنك روسيا المركزي سعر الصرف الرسمي لها مقابل الروبل، لكن عددا من التجار المصريين أفادوا وكالة “رويترز” بأنهم لم يبدأوا بعد في إجراء معاملات بغير الدولار.
كانت مصر قد حرّرت سعر الجنيه ثلاث مرات منذ مارس 2022، حتى يناير الماضي، ما دفع سعر الجنيه المصري للانخفاض مقابل الدولار بنحو 25% منذ بداية 2023، وحتى الآن، وبأكثر من 95% منذ مارس من العام الماضي.
وقد اعتمدت مصر في منتصف العام الماضي، على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للبلاد؛ مصدرا أساسيا لتوفير العملة الصعبة، عوضا عن الأموال الساخنة التي استثمرت في أدوات الدين، وتخارجت سريعا منها في مارس 2022، حيث خرج حينها أكثر من 22 مليار دولار من البلاد في بضعة أيام.
الحكومة المصرية أبدت جدية في تطبيق سعر صرف مرن وهو ما أكدته السلطة النقدية المتمثلة في البنك المركزي، كما أبدت جديتها في توسيع مساحة الاستثمار (للقطاع الخاص)، وفق جهاد أزعور رئيس إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.
وكانت إيرادات السياحة في مصر قد قفزت، خلال النصف الأول من السنة المالية الحالية، بنحو 25% إلى 7.3 مليار دولار، في حين تراجعت تحويلات المغتربين 23% إلى 12 مليار دولار للفترة عينها، وسط حالة عدم اليقين التي تسود بشأن قيمة الجنيه.. كما شهد إشغال فنادق مصر نموا بلغ 25% في الربع الأول من العام بالرغم من غياب السياح الروس والأوكرانيين.
وكان العام 2019، بمثابة عام الذروة حيث حققت مصر عائدات سياحية بلغت 13 مليار دولار.
تزامن مع ارتفاع عائدات السياحة في الربع الاول من هذا العام، تراجع تحويلات المغتربين التي هوت إلى 12 مليار دولار، من 15.6 مليار دولار خلال النصف الأول من السنة المالية الماضية، بسبب إحجام المغتربين عن تحويل الأموال عبر القنوات المصرفية بغرض الادخار أو الاستثمار الشخصي في الأوراق المالية. واعتبر بنك “غولدمان ساكس” أن استمرار الأوضاع الحالية التي يعيشها الجنيه المصري دون تغيير؛ “يؤدي لتحوُّل تدفقات العملات الأجنبية بعيدا عن السوق الرسمية”.
وفي محاولة منها لتوفير نحوا من517 مليون دولار، رفعت الحكومة سعر السولار الخميس الماضي إلى 8.25 جنيه للتر (27 سنتا أميركيا)، فيما أبقت الحكومة أسعار البنزين ثابتة. قالت وزارة البترول المصرية إنَّ الدعم الموجه للسولار حاليا، يبلغ 64 مليار جنيه سنويا بعد قرار الزيادة، مقارنة بـ80 مليار جنيه قبل القرار.. ما يعني وفرا لخزينة الدولة يقدر بـ16 مليار جنيه.
وكانت مصر قد اتخذت عدة إجراءات لجذب أموال المغتربين إلى النظام المصرفي في البلاد، فأطلقت مبادرة “تيسير استيراد سيارات المصريين بالخارج” في أكتوبر الماضي، والتي تعفيهم من الرسوم والجمارك مقابل سداد مبلغ نقدي بالعملة الأجنبية، يُحوّل من المغترب لصالح وزارة المالية. على أن يسترد صاحب السيارة المبلغ بعد 5 سنوات من تاريخ السداد بالعملة المحلية بسعر الصرف المُعلن وقت الاسترداد. وكان سبقها طرح بنكي “مصر” و”الأهلي المصري”، أكبر مصرفين حكوميين، شهادات استثمار دولارية جديدة بفائدة مرتفعة تصل حتى 5.15% في محاولةٍ لجذب أموال المغتربين المصريين بشكل أساسي. وقد أعفت مصر خلال هذا الأسبوع، واردات الذهب التي ترد بصحبة القادمين من الخارج من الضريبة الجمركية والرسوم الأخرى، لمدة 6 أشهر، لكنها أبقت على ضريبة القيمة المضافة البالغة 14%، وفقا لبيان صادر عن مجلس الوزراء المصري، وكان الذهب قد شهد تذبذبا غير مسبوق في السوق المصرية، إذ قفزت أسعاره نحوا من 167% خلال عام.
وقد شهدت الاستثمارات الأجنبية، بشكلٍ خاص، قفزة بنسبة 70% إلى 5.7 مليار دولار. بينما شهدت الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية صافي تدفق للخارج بنحو 3 مليارات دولار. في حين زادت إيرادات قناة السويس من 3.4 إلى 4 مليارات، ارتفعت الصادرات من 20.7 إلى 21.5 مليار دولار.
وقد رفعت مصر توقعاتها لعجز الموازنة الكلي إلى الناتج المحلي في السنة المالية المقبلة إلى 7% من توقعات سابقة منذ أسابيع عند 6.3%، فيما بلغت توقعات العام الجاري 8% من توقعات سابقة عند 6.8%، حسب وثيقة حكومية اطّلعت عليها “اقتصاد الشرق”.
كانت مصر تتوقع خفض العجز الكلي لموازنة العام الجاري إلى 6.1% من 6.2% في السنة المالية الماضية، و6.8% في 2020-2021. كما كانت تتوقع تراجع نموّها الاقتصادي إلى ما بين 4% و5% للسنة المالية الحالية من 6.6% قبل عام.
تستهدف مصر زيادة إيراداتها في ميزانية 2023/2024 بنسبة 41% إلى 2.142 تريليون جنيه منها تقريبا 71% من الإيرادات الضريبية التي يُتوقع زيادتها إلى 1.529 تريليون جنيه بارتفاع 31% على المستهدف في ميزانية السنة الحالية.
في خضم ذلك أعلنت مؤسسة فيتش ريتينغز للتصنيف الائتماني، تخفيض تصنيف مصر الائتماني طويل الأجل إلى “B” بدلا من “+B” مع نظرة مستقبلية سلبية.
وقد استندت فيتش في خفض تصنيف قدرة مصر على الوفاء بالالتزامات طويلة الأجل بالعملة الأجنبية (IDR) والنظرة المستقبلية السلبية – إلى زيادة مخاطر التمويل الخارجي في ضوء احتياج البلاد إلى تمويلات خارجية مرتفعة، مع صعوبة شروط الحصول عليها.
وتوقعت وكالة التصنيف الائتماني الشهيرة أن تواجه مصر صعوبة في تأمين احتياجاتها من التمويل الخارجي في السنة المالية 2024، وأرجعت ذلك إلى زيادة قيمة الديون الخارجية التي تستحق السداد فيها إلى 7.2 مليار دولار مقارنة مع 4.3 مليار دولار في السنة المالية 2023.
يُذكر أن مؤسسة ستاندرد أند بورز للتصنيف الائتماني كانت قد عدلت نظرتها المستقبلية لمصر في أبريل الماضي من مستقرة إلى سلبية، وأبقت على تصنيف الديون المصرية طويلة الأجل بالعملة الأجنبية عند مستوى “B”.
في ضوء تلك المتغيرات العاصفة التي لا تحمل كثيرا من رياح الأمل – تتراجع بشكل كبير مساحات التفاؤل بشأن تعافي الاقتصاد المصري من أزمته؛ خاصة في ظل عدم وجود حلول جادة توفي للبلاد احتياجاتها من الدولار الذي أصبح وجوده خارج المؤسسات الرسمية يمثل فجوة كبيرة تتربص بكافة محاولات الحكومة المصرية للخروج من الأزمة المتفاقمة.