رغم موقف الحياد، الذي تتبناه نجامينا، تجاه طرفي الصراع في السودان، ورغم سعيها في التوصل إلى تسوية بين طرفي هذا الصراع؛ فإنها تخشى تمدد الصراع السوداني إلى الداخل التشادي، أو استفادة حركات المعارضة التشادية المسلحة من الاضطرابات الحالية في السودان، للحصول على السلاح والدعم الخارجي.
ويبدو القلق التشادي، من الصراع في السودان، من خلال العمل أيضا على تعزيز التعاون مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية لضمان عدم اتساع رقعة الصراع، وتحوله إلى صراع إقليمي.
وترتبط تشاد والسودان بالإضافة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، بروابط اجتماعية وثقافية تتمثل في التمدد القبلي، حيث تتواجد العديد من القبائل المشتركة بين الدول الثلاث، خاصة في المثلث الحدودي بينها.
تداعيات متشابكة
في إطار التحركات التشادية الراهنة -خارجيا وداخليا- تبدو بوضوح حالة القلق المشوب بالحذر، من تداعيات الصراع في السودان على الداخل في تشاد، عبر أكثر من جانب.. لعل أهمها الجوانب التالية:
أولا: تزايد عدم الاستقرار السياسي الداخلي؛ حيث إن السودان له دور مهم ومؤثر، في استقرار أو عدم استقرار الوضع السياسي في تشاد؛ فأغلب حركات التمرد التشادية، التي وصلت إلى الحكم أو تلك التي لم تنجح بالوصول إلى الحكم، كانت تنطلق من السودان، وخاصة من إقليم دارفور؛ الذي كان يُمثل المأوى بالنسبة إلى الحركات المتمردة، خاصة المسلحة.
فالرئيس السابق لتشاد، إدريس ديبي، قبل توليه السلطة عبر انقلاب عسكري، في ديسمبر 1990، كان يتخذ من دارفور، هو وميليشياته، قاعدة خلفية؛ وبعد وفاته، عام 2021، تولى مجلس عسكري بقيادة ابنه، محمد ديبي، السلطة في تشاد. ولأن الأب والابن من عرقية الزغاوة، التي استمرت في الحكم أكثر من 30 عامًا؛ لذا، فإن القبائل العربية في الداخل التشادي، التي لها امتدادات في دارفور، مثل القرعان والفولاني وغيرهما، قد ترغب في إنهاء حكم هذه القبائل.
ثانيا: تنامي مؤشرات الأزمة الاقتصادية؛ إذ، إن تشاد غير الساحلية تعتمد على واردات معظم السلع، من المواد الخام والمنتجات الصناعية والمواد الغذائية، من موانئ رئيسة هي ميناء بورتسودان في السودان، إضافة إلى ميناء دوالا في الكاميرون، بما يجعل لإغلاق الحدود مع السودان، منذ بداية الصراع المسلح، تأثير كبير على الداخل التشادي؛ حيث ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
مثل هذا التأثير يبدو أكثر في المقاطعات الشرقية لتشاد، التي تتأثر بشكل كبير بما يحدث في السودان؛ وهو ما يمكن أن يتسبب في أزمة اقتصادية، تتنامى مؤشراتها في الراهن، باعتبار أن تشاد “دولة حبيسة” في منطقة الساحل الأفريقي. أضف إلى ذلك، من مؤشرات الأزمة الاقتصادية، توقف الصادرات التشادية القليلة، غير النفطية، التي تتشكل من القطن والصمغ العربي والماشية، بما لذلك من تأثيرات على الاقتصاد التشادي الضعيف أصلًا.
أخيرا.. تصاعد إشكاليات الأوضاع الإنسانية؛ حيث إن الصراع العسكري في السودان- وفي الخرطوم خصوصا- ساهم في فرار نحو 90 ألف لاجئ من السودان إلى تشاد، بينهم قرابة 12500 عائد تشادي كانوا يعيشون في السودان قبل اندلاع الصراع العسكري الحالي، وذلك بحسب تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في منتصف مايو الماضي؛ ولعل هذا ما دفع نائب المفوض السامي لشئون اللاجئين، رؤوف مازو، إلى الوعد بتقديم المساعدة للاجئين والتشاديين، خلال لقائه مع الرئيس ديبي، في 22 مايو الماضي.
تأثيرات محتملة
رغم هذه التداعيات المتشابكة للصراع العسكري في السودان، على الداخل التشادي؛ فإن ثمة تأثيرات محتملة في المستقبل القريب، بسبب هذا الصراع.. لعل أهمها ما يلي:
من جهة، تحول تشاد إلى منطقة صراع دولي؛ إذ، إضافة إلى المشاورات التي أجراها رئيس المجلس الانتقالي العسكري في تشاد، محمد ديبي، مع الحكومة الفرنسية وطالب فيها بضرورة تكثيف الطلعات الجوية على الحدود الفاصلة بين تشاد والسودان؛ فإن هناك قلق أمريكي متزايد من تحركات مجموعة “فاغنر” الروسية، خاصة أن هذه التحركات أسفرت عن استقطاب فاغنر لعناصر من المعارضة التشادية، للانضمام إلى معسكر تابع لها في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ وهو ما يعني أن ثمة احتمال بأن تقوم فاغنر بدعم تمرد محتمل، من جانب المعارضة المسلحة ضد الحكومة التشادية.
وإذا كانت المشاورات التي أجراها ديبي مع الحكومة الفرنسية، قد أسفرت عن تعزيز فرنسا وجودها في تشاد، حيث حصلت باريس على موافقة المجلس العسكري الحاكم بالسماح لها بإنشاء قواعد عسكرية جديدة داخل تشاد، من حيث كونها الداعم الرئيس لحكم ديبي؛ فإن تعزيز السلطات التشادية علاقاتها مع الولايات المتحدة، على مستوى التنسيق الاستخباراتي، يمكن أن يساهم في تحويل تشاد إلى منطقة صراع دولي؛ على الأقل، من منظور “الاحتكاك” المحتمل بين عناصر فاغنر الروسية، التي تتمدد في الداخل السوداني، وفي أفريقيا الوسطى، مع القوات الفرنسية المتواجدة في تشاد.
من جهة أخرى، التخوف من اشتعال الصراع في دارفور؛ حيث إنه من المعروف انتماء حميدتي إلى قبيلة الرزيقات العربية، التي لها امتدادات داخل تشاد، وهي القبائل التي على خلاف واضح مع قبائل الزغاوة، التي ينتمي إليها الرئيس التشادي الحالي. أيضا، هناك ارتباط قوي للجيش السوداني مع القادة السابقين لقبائل الزغاوة في دارفور؛ ومن بينهم منى أركو ميناوي، حاكم إقليم دارفور، وزعيم أكبر فصيل في جيش تحرير السودان، والقيادي بإعلان الحرية والتغيير. ومن ثم، فإن مسار الصراع العسكري، بين الدعم السريع والجيش السوداني، واحتمالات امتداد الصراع إلى دارفور، سوف يُلقي بظلال سلبية على الداخل التشادي، سياسيًا وعسكريًا.
والملاحظ، أن احتمال امتداد الصراع السوداني إلى دارفور، سوف يُساهم، أيضًا، في تحول المثلث الحدودي، بين تشاد والسودان وأفريقيا الوسطى، الذي يُمثل أحد أبرز بؤر التداخل العرقي والقبلي بين الدول الثلاث، إلى منطقة صراع إقليمي؛ خاصة أن هذا المثلث يشمل قبائل كبرى بينها تاريخ من الاختلافات، بين العنصر العربي فيها والعنصر الأفريقي، مثل الرونقا والزغاوة والتاما والقرعان والمساليت.. وغيرها؛ وهو ما يجعل الصراع السوداني مصدر قلق كبير بالنسبة إلى الداخل التشادي، وكذلك بالنسبة إلى أفريقيا الوسطى، في ظل الأوضاع السياسية والأمنية الهشة في كل من الدولتين.
من جهة أخيرة، القلق من تفاقم عدم الاستقرار الأمني؛ إذ، في ظل الظروف الأمنية غير المستقرة بالأصل في الداخل التشادي، يبدو القلق من احتمالات متعددة؛ منها ما يتعلق بأن يؤدي الصراع في السودان، وتدفق الكثير من المقاتلين والأسلحة إلى داخل تشاد، في تفاقم الأوضاع الأمنية، خاصة من المعارضة المسلحة؛ ومنها، أيضًا، احتمال انخراط بعض المجموعات التشادية العرقية والقبلية في الصراع السوداني، لمساندة الحلفاء الإقليميين، من نفس العرقيات والقبائل؛ وهو ما يعني التشابك في الصراع وامتداده إلى الداخل التشادي.
بل، إن مثل هذه الاحتمالات يزداد تحققها، في المستقبل القريب، على وقع الاحتمال الأهم، وهو توجه المجلس العسكري الحاكم إلى تمديد المرحلة الانتقالية؛ إذ، في هذه الحال، سوف تعمد أحزاب المعارضة السياسية إلى العودة لتنظيم احتجاجات واسعة، ضد المجلس العسكري، بما يُنذر باتساع نطاق التأزم في المشهد التشادي الداخلي؛ ومع التأزم، تحاول حركات المعارضة المسلحة من تكرار هجماتها في داخل تشاد، ومحاولة التخلص من نظام ديبي والمجلس العسكري الحاكم.
توازن حذر
في هذا السياق، يُمكن القول بأنه رغم موقف الحياد الذي تتخذه تشاد، تجاه طرفي الصراع العسكري في السودان، وسعيها في محاولة التوصل إلى تسوية لهذا الصراع؛ إلا أن خطر التداعيات المحتملة للأزمة السودانية، والصراع الدائر هناك، تُثير قدرًا كبيرًا من الانعكاسات السلبية على الداخل التشادي، مثل تفاقم الأزمات الإنسانية والأمنية، وتأليب الأبعاد العرقية والقبلية، وتعطيل حركة التجارة، وتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية.
وكما يبدو، فإن عدم حسم المنافسة القبلية طويلة الأمد، على الحدود المشتركة بين السودان وتشاد، خاصة في أبعادها العربية والأفريقية، لابد من أن تؤدي إلى “ارتدادات مستقبلية” سلبية على الداخل التشادي؛ ولعل ذلك، نفسه، ما يدفع المجلس العسكري في نجامينا إلى الحفاظ على “توازن حذر”، في الموقف من طرفي الصراع السوداني، ومحاولة التقارب مع عدد من القوى الدولية والإقليمية والعربية، لتحجيم الصراع السوداني، والحيلولة دون امتداده إلى داخل البلاد.