يُهدد تصاعد الصراع العسكري السوداني، وعدم الاستقرار في هذا البلد، المصالح التركية فيه؛ فقد اختارت تركيا السودان، بسبب موقعه ومساحته وفرص الاستثمار فيه، ليكون إحدى أهم ركائز سياستها الأفريقية عمومًا، وفي منطقة القرن الأفريقي وسواحل البحر الأحمر تحديدًا؛ خاصة مع امتلاك أنقرة قاعدة عسكرية في الصومال، واستئجارها لجزيرة سواكن السودانية على البحر الأحمر.
واللافت، أن السودان يُمثل بالنسبة إلى تركيا أهمية جيوسياسية، فضلًا عن أهميته الاقتصادية، ولاسيما في ظل عضوية السودان لعدد من المنظمات الإقليمية الأفريقية، مثل السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا، وتجمع دول الساحل والصحراء، وغيرها؛ إضافة إلى الدوائر الجغرافية التي تجاوره، من القرن الأفريقي إلى منطقة الساحل، ومن شمال أفريقيا إلى وسط القارة.
وبالتالي، فإذا كانت تركيا قد حاولت استغلال العلاقة مع الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، لتنمية نفوذها في السودان؛ فهي قد صححت المسار، بعد عام 2019، من خلال الانفتاح على اللاعبين المؤثرين هناك، البرهان وحميدتي، عبر التواصل معهما لحماية العشرات من المشروعات وعقود الاستثمار التركية في المدن السودانية. لذلك، يبدو أن ما يجري في السودان، من تصاعد في الصراع العسكري بينهما داخل البلاد، يولد أسبابًا متعددة للتخوف التركي، نتيجة مصالحها، ولأنه يطول سياستها الإقليمية في القرن الأفريقي ومداخل البحر الأحمر الجنوبية.
عوامل رئيسة
رغم أن تركيا تردد أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع السوداني، وأن ما يجري هو شأن داخلي؛ إلا أن هناك الكثير من العوامل التي تدفع أنقرة إلى القلق والتخوف من النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الصراع.. لعل أهمها ما يلي:
أولًا: تأثير الصراع على مصالح تركيا الاقتصادية؛ إذ، من الواضح، أن تركيا كانت قد عملت، خلال السنوات الماضية، على ترسيخ حضورها في السودان، عبر التوقيع على عديد من مذكرات التفاهم معه؛ فإضافة إلى الاتفاقيات التي وقّع عليها، أثناء زيارة عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، إلى أنقرة، الخميس 12 أغسطس 2021، والتي وصلت إلى 6 اتفاقيات، وشملت مجالات متعددة؛ فقد وقّع أيضا على مذكرات تفاهم، في بداية العام الجاري، من خلال توقيع مذكرات تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية، بتوقيع فؤاد أقطاي نائب الرئيس التركي، وحسين عثمان وزير شئون مجلس الوزراء السوداني، في 20 يناير الماضي.
ومن ثم، بقدر ما تحاول تركيا معرفة من الذي سيقود المشهد السوداني في المرحلة المقبلة؛ فهي -في الوقت نفسه- تريد أن تعرف مصير العشرات من المشروعات الاقتصادية التي بدأتها في هذا البلد؛ بل ومصير مئات ملايين الدولارات من الاستثمارات في المدن السودانية.
ثانيًا: التداعيات على الاستثمارات في الغذاء والطاقة؛ حيث يُمثل السودان أحد المصادر المهمة في منطقة القرن الأفريقي للطاقة التقليدية والطاقة البديلة ومجالًا متميزًا للاستثمار فيهما؛ لذا ومع تطلع تركيا إلى التحول في مصادر الطاقة البديلة، فإنها تسعى إلى تنامي نفوذها في السودان، كبوابة لها نحو شرق أفريقيا، بالتوازي مع تواجدها في ليبيا، وذلك عبر الاتفاقيات المُبرمة بين الجانبين في هذا الشأن.
أضف إلى ذلك، السعي التركي في إجراء بحوث حول البني التحتية للري، الخاصة بنهر النيل والمياه الجوفية، كمصادر لري مشروع “الهواد التنموي” الزراعي، بولاية نهر النيل، الذي منحته الإدارة السودانية، في يناير الماضي، إلى أنقرة؛ وهو مشروع على مساحة مليونين وأربعمائة ألف فدان، بالتنسيق بين وزارة الزراعة والغابات التركية ووزارة الري والموارد المائية في السودان.
ثالثًا: التخوف من احتمال إلغاء اتفاقية “سواكن”؛ فقد لقي منح السودان تركيا حق إدارة جزيرة سواكن وتأهيلها، الكثير من الانتقادات في الداخل السوداني؛ ليس فقط باعتبارها تأتي ضمن حزمة من الاتفاقيات التي وقّع عليها بين أنقرة ونظام البشير، في ديسمبر 2017، ولكن أيضًا من جانب ميراثها الجيواستراتيجي، حيث كانت مقرًا لنظام الحكم العثماني.
وبعد سقوط البشير، ووفق المتغيرات الداخلية السودانية، عملت تركيا على ضرورة الانتقال السلمي للسلطة وتسوية الأزمة السودانية، خاصة بعد إعلان المجلس العسكري الانتقالي، الذي تأسس في 11 أبريل 2019، عن رفضه إقامة قاعدة عسكرية تركية في سواكن؛ وهو أمر من شأنه أن يُعيد خلط الأوراق التركية في السودان، وفي منطقة جواره الإقليمي، ويُزيد من إرتباك وجودها في واحد من أهم المجالات الاستراتيجية في القارة الأفريقية عمومًا.
رابعًا: القلق من اهتزاز النفوذ العسكري التركي؛ إذ، سعت تركيا منذ فترة لفرض نفوذها العسكري على سواحل البحر الأحمر، وامتلاك بعض القواعد العسكرية في منطقة القرن الأفريقي؛ وهو ما تحقق لها بافتتاح القاعدة العسكرية بالصومال، في عام 2017. وقد كانت أنقرة تستهدف أن يمتد نفوذها العسكري إلى السودان، عبر نقل إدارة جزيرة سواكن إليها، في محاولة لتمديد تواجدها العسكري على سواحل البحر الأحمر، عند المداخل الجنوبية له.
إلا أن إعلان المجلس العسكري السوداني رفضه لإقامة قاعدة عسكرية تركية في سواكن، ثم تصاعد الصراع العسكري، لابد أن يدفع تركيا إلى القلق من تراجع نفوذها العسكري في السودان، وربما في منطقة القرن الأفريقي، في حال امتداد تداعيات الصراع في السودان، وارتداداته السلبية، في المنطقة.
خامسًا: الحذر من تمدد الصراع إلى الجنوب الليبي؛ حيث يُشكل السودان وليبيا على حد سواء، مجالًا حيويًا مهما لأنقرة على الصعيدين الأمني والاقتصادي؛ إذ، يُشكل الملف الليبي أهمية استراتيجية بالنسبة إلى تركيا، في ظل ارتباطه بالحدود البحرية، وطموحات أنقرة في غاز البحر المتوسط؛ فيما يُشكل السودان عُمقًا استراتيجيًا لتركيا في القرن الأفريقي، ومدخلًا إلى منطقة الساحل الأفريقي.
لكن، رغم نجاح أنقرة في معالجة مشكلتها مع حميدتي بسبب الملف الليبي، بعد اتباع أنقرة لسياسة الانفتاح على العديد من العواصم العربية، خاصة مع القاهرة وأبو ظبي والرياض، بما سهل لها التواصل مع العديد من الرموز العسكرية السودانية؛ إلا أن تصاعد الصراع السوداني، واحتمالات تمدده إلى دارفور، وهو الواضح حاليًا، ومن ثم الجنوب الليبي، لابد وأن يؤثر على التواجد التركي في الغرب الليبي، وتفاعلاته العسكرية والسياسية.
حذر مستقبلي
في هذا السياق، يُمكن القول بأن ما يجري في السودان، من تصاعد في الصراع العسكري، يدفع تركيا إلى “الحذر المستقبلي” لأنه يطول سياستها الإقليمية؛ ولأنه أيضًا لا يمكن فصله بسهولة عن الحراك التركي نحو الشرق الأوسط، ومنطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد أن ارتفعت أرقام البعثات الدبلوماسية بين تركيا وأفريقيا بنسبة 7 أضعاف في العقد الأخير.
وبالتالي، فإذا كانت تركيا قد خسرت رهاناتها على عمر البشير، بعدما توحد الداخل السوداني سياسيًا وعسكريًا ضده؛ فإنها اليوم، وفي إطار ما يحدث هناك من صراع عسكري، لن تستطيع التفريط في علاقتها بكل من طرفي هذا الصراع، لصالح إرضاء أحدهما على حساب الآخر. وكما يبدو، ستحاول أنقرة مواصلة سياستها الإقليمية، في الانفتاح على العواصم الفاعلة في الإقليم، ومع اللاعبين المؤثرين في تفاعلات الساحة السودانية، خصوصًا مصر والإمارات والسعودية، وذلك بهدف حماية مصالحها واستثماراتها في السودان، وبعض الدول في جواره الإقليمي.