أطل بموسيقاه على الساحة السينمائية للمرة الأولى، من خلال فيلم “بيت بلا حنان” عام 1976، للمخرج علي عبد الخالق وتأليف مصطفى محرم، وكان ذلك عقب تقديمه عدة تجارب مسرحية في الستينيات والسبعينيات، كان أبرزها مسرحية “الحسين ثائرًا” للأديب والمؤلف المسرحي عبد الرحمن الشرقاوي الذي أصدر المسرحية الشعرية “ثأر الله” التي تشمل مسرحيتي “الحسين ثائرًا” و”الحسين شهيدًا” عام 1969، والتي تتناول أحداث ما قبل يوم عاشوراء بالإضافة إلى وقائع هذا اليوم ومايليه، أي منذ رفض الحسين بن علي )رضي الله عنهما( إعطاء البيعة ليزيد بن معاوية سنة 60 هـ إلى أن استشهد في معركة كربلاء، على أرض العراق. وللأسف بعدما استعد المخرج كرم مطاوع في نهاية عام 1972، لعرض هذه المسرحية الشعرية، وبعد عمل عدة بروفات لم يوافق على العرض ومنعت المسرحية.
كمال بكير القاضي في مجلس الدولة والمستشار القانوني، كان يتمتع بموهبة التأليف الموسيقي، وكان إنتاجه الفني زاخرًا، بما يختزنه في وعيه من معايشة فعلية لآمال وآلام المصريين، في فترة التمسك بالأمل في التغيير، ثم تبدد ذلك الحُلم العام بعد الفشل في تحقيق ما كانت تصبو إليه الجموع المهمشة والمطحونة؛ لتجد نفسها بعد خوض أكثر من حرب في معركة يومية، فرضها غول الانفتاح الاقتصادي، وفي نضال مرير عليها أن تخوضه بمفردها ضد التطبيع.
وبرغم ما كان يتمتع به كمال بكير رحمه الله من وسامة وحضور لافت؛ إلَّا إنه عاش وحيدا بين ملفات قضاياه والنوتات الموسيقية، التي يضعها للأعمال الدرامية في المسرح والسينما والتلفزيون إلى أن توفاه الله في هدوء ودون أي ضجيج إعلامي سنة 2010، ليترك بصمته الإبداعية الخاصة به، والتي تتميز بها جمله الموسيقية، التي كانت ضمن أعمال فنية تحمل رسالة وذات مضمون وتعبر عن الواقع بكل مصداقية.
تميز كمال بكير بموسيقاه ذات الطابع الشرقي، والتي كانت لا تخلو من استخدام الآلات الشرقية، مثل القانون والعود والرق والطبلة والناي والكمان.
ومن عام 1976 إلى عام 1979، وضع كمال بكير الموسيقى التصويرية لفيلم سينمائي هو “بيت من حنان”، ثم لمسلسلين تلفزيونين هما: “زيارة ودية”، و”الشوارع الخلفية” وكلاهما من إخراج إبراهيم الصحن.
https://www.youtube.com/watch?v=pM5-_5qeoyU
وفي الثمانينيات تألق الثنائي كمال بكير والمخرج محمد خان في سبعة أفلام سينمائية هي: “ضربة شمس” و”الرغبة” و”موعد على العشاء”، و”طائر على الطريق” و”الثأر” و”خرج ولم يعد” و”عودة مواطن”.
كما اشترك بكير بإبداعه الموسيقي ونغماته العذبة الشجية مع المخرج عاطف الطيب عام 1982، في ثاني عمل من إخراجه وهو رائعته الخالدة فيلم “سواق الأتوبيس” وفي عام 1987، وضع بكير الموسيقى التصويرية لفيلم “زمن حاتم زهران” للمخرج محمد النجار.
أما في التسعينيات فلم يضع كمال بكير الموسيقى التصويرية سوى لفيلمين اثنين هما: “سوبر ماركت” للمخرج محمد خان عام 1990، وفيلم “مبروك وبلبل” أول أفلام المخرجة ساندرا نشأت عام 1998، ليكون هو آخر أعماله.
https://www.youtube.com/watch?v=rm3KVHue1xg
الثلاثي محمد خان وبشير الديك وعاطف الطيب – كان همهم تقديم أعمال سينمائية تُعبّر عن هموم الإنسان المصري، وعمق هزيمته المجتمعية، في ظل الانتصار المُحتفَى به على العدو المحتل للأرض، فإذا بالتحرير لم يكتمل بعد، وإذا بمعنى السيادة الشاملة لم يتأكد بكل قوة؛ فبعد التوقف عن المعارك الحربية بالأسلحة الثقيلة والاعتقاد بانتهاء الحرب، كانت معركة الإنسان في مجتمعه أشد وطأة وأكثر التهابًا؛ لأن العدو بات متخفيًا وراء قناع الصديق، فلا هو يُرى بالرغم من وجوده، ولا هو يمكن مواجهته لمهارته بمساعدة أعوانه في التضليل والإغواء. ولكن بالرغم من اختراق الصفوف، وتشتيت الجموع، وتمزيق كل وحدة، وهدم بنيان أي كيان معارض لاجتياح ذلك الطوفان الجارف إلَّا أن الساحة لم ولن تخلو من المقاومة والصمود.
وهكذا كان لابد من صرخة تعلن عدم انتهاء الحرب، بل تجدد اشتعالها؛ ولكنها للأسف لم تزل صرخة فردية دون توحيد للأهداف والصفوف، أو عزم عام على القتال والصمود، أو وعي مجتمعي بخطورة الهزيمة النفسية والإنسانية، وتفشي الفساد دون قيود.
ولأن الفن ليس مجرد متعة وتسلية، أو إبداع تافه وسطحي يخلو من القيمة، فإنه لابد بين حين وآخر، من ظهور أعمال فنية لها رسالة وذات مضمون، وتقدم كلمة تظل باقية مهما تقادمت أو مرت عليها الأعوام والسنوات.
ولقد كانت نغمات موسيقى كمال بكير، في أفلام محمد خان والسيناريست بشير الديك، بمثابة زفرات الأسى وتنهيدات الحسرة، على وأد كل بطولة وطمس معالم أي انتصار، وبمثابة النحيب اليومي المألوف، على الإنسان المقهور في كل مكان يضيق – بالرغم من رحابته- بسبب تزاحم الأجساد المتصارعة على الفتات من لقمة العيش، والذي يخلو من الهمم القوية والأيدي القادرة على تغيير هذا الواقع المرير.
وها هو فيلم سواق الأتوبيس، كواحد من أهم علامات السينما الواقعية المصرية في الثمانينيات، كانت موسيقى كمال بكير أحد أهم عناصره الفنية التي أعطت له بريقًا لا يزول أو يخفت؛ بل كانت تبدو وكأنها حوار من نوع آخر، يعتمد على النغمات وليس الكلمات.
لقد اختار بشير الديك – صاحب قصة فيلم سواق الأتوبيس– أن يسند إخراجه إلى المخرج عاطف الطيب، ليكون هو وفيلم “الغيرة القاتلة” باكورة أفلامه السينمائية الطويلة بعد عدة أفلام عمل فيها مساعد مخرج، بينما تفرغ “ثالثهما” خان لإخراج فيلم آخر من قصته هو فيلم الثأر عام 1982.
وبالفعل كان فيلم سواق الأتوبيس فاتحة خير على المخرج المبدع عاطف الطيب فحصل عنه على جائزة العمل الأول في مهرجان قرطاج بتونس، كما احتل الفيلم المركز الثامن في قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، ضمن استفتاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته العشرين عام 1996، بمناسبة مئوية السينما المصرية.
https://www.youtube.com/watch?v=syJfi0pJ3FI
يبدأ تتر فيلم سواق الأتوبيس مع بداية اليوم الذي من المفترض أن تسوده البهجة والتفاؤل، وهو ما توحي به موسيقى سيد درويش “الحلوة دي قامت تعجن في البدرية” ولكن كل يوم جديد كان يخرج فيه حسن سائق الأتوبيس إلى عمله لم يكن مُحمَّلًا بالإشراق الذي يتمتع به أصحاب البال المرتاح والأمل المتجدد؛ بل امتزج بأنين المطحونين ومعاناة المقهورين، وهو ما ظهر بوضوح على تعبيرات وجه بطل الفيلم الفنان نور الشريف على مدار الفيلم، والذي جسدته ببراعة وانسيابية موسيقى كمال بكير، فكانت نفس الآلات الشرقية التي أظهرت بهجة استقبال الصباح في تتر الفيلم هي ذاتها التي عبَّرت بسلاسة ورقة، من خلال نغمات الناي الحزينة التي أبدعها بكير عن المأساة الدفينة التي يحملها البسطاء في أعماقهم بسبب قسوة الظروف المعيشية، وضيق ذات اليد.. خاصة لمن يحيون بشرف؛ ومن ثم تتفاقم مشكلاتهم المتراكمة، جيلًا وراء جيل بسبب عجزهم عن تغيير الأحوال أو التغلب على الشدائد.
https://www.youtube.com/watch?v=yQchsng9Zos
ومثلما كان التدافع بين ركاب الأتوبيس المزدحم؛ نموذجًا مصغرًا للتدافع بين الناس في الحياة على لقمة العيش، فقد كان وقوع تلك السيدة المصرية على الأرض؛ أثناء نزول الركاب في تتر الفيلم، دون أدنى اهتمام بها كامرأة، هو رمز للفخ الذي وقعت فيه المرأة العاملة بعدما باتت تزاحم الرجل في العمل خارج البيت، بالإضافة إلى تحملها أعباء مهمتها الأساسية داخل البيت مما ضاعف من معاناتها، وذلك على عكس ما روِّجَ له مجتمعيًّا من أن خروج النساء للعمل، جعلهن جميعًا أفضل حالًا من ذي قبل.
ومن الملاحظ أن الجملة الموسيقية أو التيمة اللحنية، التي أبدعها كمال بكير في فيلم سواق الأتوبيس، رغم بساطة نغماتها إلَّا إنها كانت قادرة على النفاذ إلى أعماق القلوب؛ لأنها كانت من وحي الحارة المصرية والأحياء الشعبية، التي لم تتحول بعد إلى مناطق عشوائية. ولذلك كانت دقات الطبلة ذات الإيقاع الشرقي والمصاحبة لنغمات الناي والكمان- تبدو وكأنها بمثابة دقات القلب الحزين المتوجس للخطر والضائق بمصاعب الحياة؛ فإذا بها كالإنذار بالتغيير الذي يجب أن يحدث، والذي حتمًا سيحدث على أرض الواقع؛ كي ينتهي ذلك الاغتراب الموجع عن المجتمع والمفروض قهرًا دون رحمة أو هوادة.
لقد نجحت موسيقى كمال بكير المصاحبة لمشاهد هذا الفيلم بوصفه واحدا من أهم أفلام كمال بكير وأهم أفلام السينما الواقعية المصرية – في صناعة حالة درامية قادرة على استدراج الجمهور لمشاركة أبطاله حالتهم الشعورية؛ ومن ثم تلمس مدى قسوة معاناتهم الكامنة بالأساس في إيهامهم وإغوائهم بالتنازل التدريجي عن حقوقهم وعن الكرامة والعزة، والذي يؤدي بدوره إلى التفريط في الأرض، والتخلي عن الممتلكات وعدم القدرة على الحفاظ عليها، إلى أن تضيع وتفقد إلى الأبد.
إنه ذلك التهاون التدريجي الذي عاني منه بطل الفيلم حسن سائق الأتوبيس، والذي وجد نفسه هذه المرة يقاتل بمفرده، من أجل استرداد ما سُلِب منه معنويًّا وماديًّا دون اكتراث أو مبالاة ممن حوله، فرفض أن يبيع مثلما باع غيره؛ لأنه كان من قبل في صفوف من ضحوا من أجل البقاء ومن أجل الحرية، ومن أجل العزة والكرامة.
وكان حسن على يقين من أنه بعد ذهاب خيرة الرجال ورحيل أفضل المقاتلين، لا يجب أن يخلو الميدان ممن يحملون الراية، كي يستكملوا المشوار.
فهل بإمكان سائق أتوبيس من عامة الشعب أن يقود وحده قاطرة الصحوة، وأن يكون نموذجًا للقدرة على استرداد كل حق مسلوب، وكل كرامة منتهكة وكل حرية مفقودة؟!
وفي بقية الأفلام التي تعاون فيها محمد خان مع كمال بكير؛ استطاع الأخير من خلال موسيقاه الشجية، أن يكون خير موصل لرؤية خان السينمائية، ولرسالته الفنية والفكرية؛ فموسيقاه التي تمس القلوب بما فيها من لمسة حزن عميقة – لم تجذب إليها الآذان فقط، بل استثارت منذ الوهلة الأولى، كل خلجات القلوب بكل نعومة وانسيابية؛ فارتبطت أذن المشاهد بها مثلما ارتبطت عينه بالصورة السينمائية؛ ومن ثم كان الارتباط بين خان وبكير يبدو للمشاهد وكأنهما نسيج واحد، لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر.
ويتضح ذلك في فيلم “طائر على الطريق” الذي رصد المعاناة الفردية للإنسان مع الحرية المستحيلة، في مجتمع لا يفرض سوى القيود، لتكون نتيجة التمرد العشوائي وغير المدروس هي الموت، وكأنه هو المرادف الوحيد للحرية المطلقة؛ خاصة لكل من يطمحون في الحصول على كل شيء؛ مهما كان مستحيلا.
والسائق هذه المرة هو سائق البيجو فارس، الذي جسَّده الفنان أحمد زكي، وكان مجرد إنسان بسيط فضَّل أن يمضي حياته محلقًا فوق الأسفلت، وفوق قيود المجتمع وقيود الزواج، فكان مشهد ارتطام الطائر بسيارته ليلقى حتفه في الحال إنذارًا له بنهايته المحتومة إذا ما قرر الحصول على شيء ليس من حقه. فكيف به بعدما رفض الاستمرار في علاقة غير مشروعة مع امرأة متزوجة في بداية الفيلم، يندفع وراء عاطفته تجاه فوزية وهي أيضا امرأة متزوجة، لتنتصر عليه شهوته فيقع في المحظور ويكون مصيره هو الموت؟!
وبالرغم من عدم مصاحبة موسيقى كمال بكير للكثير من مشاهد هذا الفيلم – إلًّا إنها كانت برغم قلتها موظفة توظيفًا جيدًا، وموحية بالانفعالات الوجدانية لأبطال الفيلم، وشريكا أصيلا للتعبير عن رؤية الثنائي محمد خان وبشير الديك، اللذين رصدا المعاناة الإنسانية الناتجة عن الكبت والقهر من ناحية، وعن التخبط والعشوائية من ناحية أخرى، وهذا ما عبَّرا عنه على لسان عصمت رفيقة فارس، عندما وافقت على خطبتها من شخص لا تحبه بعدما اكتشفت حب فارس لفوزية، فقالت له بكل أسف: “على فكرة احنا غلابة قوى، عايشين في سجن كبير، وكل ما نحاول نهرب منه نموت!”.
https://www.youtube.com/watch?v=WgpSd2YbsPM
رحم الله الموسيقار المستشار كمال بكير صاحب البصمة المميزة في الموسيقى التصويرية، ومبدع النغمة الشجية الشرقية في السينما المصرية الواقعية، ورحم الله كل فنان مبدع تفتقده الآن الساحة الفنية بشدة خاصة في ظل القولبة التي يفرضها النظام العالمي الجديد على الذوق العام، وذلك من أجل تقزيم كل ما هو شامخ وله مكانة في مقابل الإعلاء من كل ما هو تافه وليس له قيمة.