رغم أن عُمر معركة “طوفان الأقصى” لم يزد حتى الآن عن أسبوعين، إلا أن ملامح ما أنجزته المقاومة الفلسطينية الباسلة من خلال هجومها المُباغت على مواقع ومستعمرات العدو الصهيوني في السابع من أكتوبر 2023، وصمودها في الأيام التالية- بدأت تتضح وتتبلور في عدة نقاط رئيسة:
أولا: تمكنت المقاومة في الأيام الثلاثة الأولى من تدمير “فرقة غزة” الصهيونية بشكل شبه تام، مما يسر لها السيطرة على نحو ثمانية مواقع عسكرية صهيونية؛ إضافة إلى التوغل في مستعمرات ما يُعرف بـ “غلاف غزة” وهي السيطرة التي استمرت نحو 72 ساعة كاملة، قبل أن يُفيق الجيش الصهيوني من صدمته، وينشر قواته في تلك المنطقة، وهو الأمر الذي لم يحل دون استمرار وجود مقاتلين من المقاومة في تلك المستعمرات، كما أكدت قيادة الجيش الصهيوني.
ثانيا: قدمت المقاومة نموذجا للأمة بأسرها، عمَّا يُمكن لمقاومة شعبية منظمة ومهيّأة وآخذة بأسباب القوة أن تحقق، ضد عدو يحيط ذاته بهالة من القوة، ولعلي لا أبالغ إن قلت أن هذا تحديدا هو أكثر ما يخيف الولايات المتحدة.. إذ أن هذا النموذج قد يُغري المقاومة اللبنانية بتقليده في شمال فلسطين المحتلة، كما أن القواعد العسكرية الأمريكية في كل من سوريا والعراق قد تضحي هدفا للفصائل المُسلحة في كلا البلدين، وهو أمر بات يتجسد واقعا في الأيام الأخيرة.
ثالثا: تمكنت المقاومة من تكريس معادلة التهجير بالتهجير التي أعلن عنها الناطق باسمها، إذ اضطرت الحكومة الصهيونية إلى تفريغ مستعمرات الجنوب (غلاف غزة) ومستعمرات الشمال (الحدود اللبنانية – الفلسطينية) بل إن التفريغ امتد بفعل صواريخ المقاومة إلى مدنٍ بأسرها مثل عسقلان التي أجْلَت الحكومة الصهيونية سكانها من الصهاينة، وإن استمر سيناريو التفريغ على هذا النحو سيُشكل عبئا كبيرا على كاهل الاقتصاد الصهيوني؛ خاصة وأن الحكومة تتحمل تكلفته.
ومن اللافت حقا هرولة الحكومة الصهيونية لإجلاء المستعمرين؛ في مقابل تشبث أهل قطاع غزة بأرضهم رغم ضراوة وشراسة القصف الصهيوني، وهو ما عبّر عنه رئيس مجلس مستعمرات غلاف غزة حين صرّح أن المستعمرين لا يمكنهم العودة إلى مستعمرات الغلاف طالما بقي أهل غزة فيها، ما يدل على أن مجرد بقاء الغزيين على أرضهم -قابضين على الجمر- هو في حد ذاته فعل رباط وجهاد ومقاومة؛ حتى وإن لم يطلقوا رصاصة واحدة! فما بالك وقد امتلكوا السلاح والصاروخ.
رابعا: وضعت المقاومة المصالح الأمريكية في المنطقة في خطر داهم بفعل الانحياز الأمريكي السافر للكيان الصهيوني، فالقواعد الأمريكية -كما أسلفنا- باتت هدفا مفضلا للمُسيّرات والصواريخ والسفارات الأمريكية في العواصم العربية.. باتت هدفا ومقصدا لجموع المتظاهرين، ولعل هذا ما يُفسر اتجاه وزير الدفاع الأمريكي لزيادة عدد القوات المتمركزة في المنطقة.
بل إن الداخل الأمريكي ذاته بلغ درجة الغليان، ولا أدل على ذلك من اقتحام متظاهرين جُلهم من اليهود الأمريكيين المعادين للصهيونية لمبنى الكونغرس الأمريكي حيث غالبية النواب تتخذ موقفا مؤيدا للكيان الصهيوني.
كما تصاعدت الدعوات بين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية في الولايات المتحد للتصويت لحزب ثالث في الانتخابات القادمة بعيدا عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي المنحازين-كلاهما- للجانب الصهيوني.
خامسا: أعادت المقاومة إحياء شارع عربي منهك منذ نحو عشر سنوات، فبدا نابضا بالحياة ومشتعلا بتظاهرات التضامن.
وخير مثال على ذلك الشارع المصري الذي ركن إلى السكون منذ عام 2013 بعد انتفاضتين شعبيتين (يناير 2011 ويونيو 2013) حيث عادت جنبات الجامع الأزهر إلى الامتلاء بالمتظاهرين، بل إن التظاهرات بلغت ميدان التحرير ذاته: رمز الانتفاضتين المشار إليهما أعلاه.
سادسا: وحّدت المقاومة -حولها وحول مشروعها- بلدانا عربية مزقتها حروب وأزمات داخلية واقتتال مذهبي وحزبي على مدار السنوات الـ 12 الماضية.
وأعادت توجيه بوصلة هذا الشارع من بغداد إلى القاهرة إلى تونس وحتى اليمن نحو وجهته الصحيحة- ضد عدوه التاريخي والحقيقي.
وهو الأمر الذي أدركه الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي في حكومة الاحتلال، غيورا آيلاند، الذي صرّح مؤخرا بأن “أولئك الذين ما زالوا يحلمون بالسلام العربي الشامل، لن يحدث ذلك فحسب، بل إننا بالفعل أكثر عُزلة، نحن نرى جبهة موحدة للغاية معادية لإسرائيل، نحن في معركة صعبة مع بقية العالم”.
سابعا: لا أبالغ إن قلت أن المقاومة وضعت مقولة الشاعر العربي الراحل محمود درويش “سقط القناع عن القناع عن القناع” موضع تنفيذ.
فقد أسقطت الأيام الأولى للمعركة أقنعة غربية عدة: أولها قناع التسامح مع الاختلاف، فرأينا حكومات تُصنف ذاتها كحكومات ديمقراطية ليبرالية تقمع وبعنف مُفرط تظاهرات التضامن مع فلسطين، ووصلت درجة القمع في فرنسا إلى حد اعتقال أفراد لمجرد رفعهم العلم الفلسطيني، ذلك العلم الذي قال وزير فرنسي صراحة أنه يستفزه كذلك ارتداء الكوفية، ولاحظ هنا أن هذه الحكومات هي ذاتها التي تتسامح مع رفع تظاهرات أخرى للعلم الصهيوني، والتي تسامحت مع تدنيس المصحف الشريف منذ فترة ليست بالطويلة تحت مسمى حرية التعبير.
كما سقطت أكذوبة الاحترافية الإعلامية لدى مؤسسات صحفية أوروبية وأمريكية كُبرى لم تجد غضاضة في ترديد أكذوبة “قطع رءوس الأطفال اليهود” على يد المقاومة وهي الأكذوبة التي رددها الرئيس الأمريكي نفسه دون تحقيق أو تثبت منها والتي لم يكشف زيفها تحقيق أجرته وكالة الأناضول الإخبارية فحسب وإنما أيضا مشاهد حُسن معاملة المقاومة لأسراها، سواء بتقديم العلاج للمُصابين منهم أو الإفراج عن بعضهم لأسباب إنسانية بحتة.
ومن بين الأقنعة التي سقطت أيضا، قناع فصل الدين عن الدولة لدى الساسة الأمريكيين والأوروبيين، إذ لم يجد وزير الخارجية الأمريكي حرجا في القول صراحة أنه ينحاز للكيان الصهيوني بسبب ديانته اليهودية.
الخلاصة: إن كان كل ما سبق حققته مقاومة محاصرة ومعزولة عن العالم الخارجي منذ نحو 15 عاما، فيجدر التساؤل حول ما يمكن لها أن تحقق إن توافر لها الدعم العربي لاسيما من الدول المجاورة لها.