مختارات

مونديال قطر.. إعادة الاعتبار للعروبة وفلسطين وقادة المستقبل

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن صحيفة عُمان

حسين عبد الغني

 

 

 

 

بسبب عنصرية الغرب الاستعلائية ورغبته في فرض قيم حضارته على الحضارات الأخرى، وبسبب محاولة بعض تيارات الإسلام السياسي استثمار هذه العنصرية في إذكاء صراع حضارات يتقدمون فيه لاستعادة الشارع العربي والإسلامي الذي فقدوه في العشرية الأخيرة، كاد أن يتحول مونديال قطر 2022 إلى ساحة لصراع الأديان.

وكاد أن يتحول مونديال للكرة يحدث كل 4 أعوام يجمع ويوحد الشعوب والثقافات تحت سقف أعظم لعبة جماعية اخترعتها البشرية إلى ميدان للسجالات المريرة حول الهوية الثقافية والمركزية الغربية والماضي الاستعماري، وحجب ذلك نسبيا في الأسبوع الأول للمونديال ظواهر حقيقية لا تقل أهمية استطاعت أن تفرض نفسها تدريجيا رغم صخب صراع الأديان والحضارات الذي عمل من يسخرون الدين لأغراض سياسية في الجانبين على إبقاء شعلته متقدة بأي ثمن.

لكن ولأنه لا يصح الصحيح، أعاد أول مونديال في بلد عربي الاعتبار لثلاث ظواهر كان الوعي العربي الجماعي قد بدأ يصدق حملة اسرائيلية غربية بمشاركة “جيب” عربي صغير تقول إن هذه الظواهر قد انقرضت ودفنت مع الماضي.

أولا: إعادة الاعتبار للعروبة: مع الفوز التاريخي للمنتخب السعودي على منتخب الأرجنتين والفوز التاريخي للمنتخب التونسي على فرنسا حاملة لقب كأس العالم الأخيرة ثم الإنجاز التاريخي الأهم وهو صعود منتخب المغرب الى دور الـ 16 متصدرا لمجموعته، انفجرت في الدوحة مقر المونديال وفي العالم العربي كله وفي أوساط العرب في المهجر من امريكا إلى استراليا إلى أوروبا مشاعر فرح وتضامن عربي شعبي اخترق كل الحدود وفاق كل التوقعات، مكتسحا كل وسائل التواصل الاجتماعي” ترندا” عالميا داعما لكل منتخب ينتمي إلى هذه المنطقة من المحيط الى الخليج .

قالوا إن العروبة ماتت وشبعت موتا وعينوا تواريخ متناقضة لهذه الوفاة فمن قال إنها ماتت لعوامل سياسية مثل وفاة جمال عبد الناصر 1970 أو بعد الانقسام العربي بعد “كامب ديفيد” 1978 أو بعد غزو الكويت 1990..إلخ.

وقالوا أنها ماتت لأسباب ثقافية تتعلق بهيمنة النزعة القُطرية الضيقة في نصف القرن الأخير من جهة وتغلغل العولمة من جهة أخرى فذابت فيها الأجيال العربية الشابة في بوتقتها وجعلت هذه الأجيال تنظر للعروبة كعنصر من عناصر التخلف الذي أعاق التقدم في مجتمعاتنا.

كل هؤلاء ومعهم الطابور الخامس عربيا وجدوا أنفسهم في حيص بيص لا يكادون يفقهون حديثا من هذا الانفجار في مشاعر العروبة الذي أزاح حتى الحواجز النفسية بين بلدان عربية بينها نزاعات مزمنة كنزاع الصحراء بين الجزائر والرباط، فوجدنا الجزائريون يفرحون بفوز منتخب أسود الأطلسي المغربي كأنه فوز لمنتخب محاربي الصحراء الجزائري.

بل وجدنا ممثلين للتيار الثقافي الرئيسي في معاداة فكرة العروبة تاريخيا فبشر ببدائل للعروبة مثل الفرعونية في مصر أو الأمازيغية في شمال إفريقيا.. أو الزنوجة الأفريقية في السودان.. إلخ، وهو التيار الليبرالي العربي نجدهم هم أنفسهم من يبادر بتثبيت انبعاث هذه الروح العروبية ويحتفون بها.

حتى التيارات الثقافية المتمردة التي تتبنى مفهوما جامحا يقوم على أن التقدم لن يحدث إلا عبر تقليد «قتل الأب» والتمرد على كل قديم وجد نفسه -دون أن يشعر ودون أن يستطيع أن ينكر أيضا – جزءا سابحا مع المجموع في طوفان المشاعر الفطرية العروبية التي تجمعها روابطها اللغوية والثقافية والدينية من إسلام حنيف ومسيحية شرقية وتاريخها المشترك من الاتراح والافراح.

علي أنه من الإنصاف القول إن انفجار المشاعر العروبية لم يكن فقط وليد هذه المشاعر التي تحملها الشعوبي وجدانها وإنما أيضًا هي تلخيص للخبرة التاريخية بالغة المرارة بالغة الانكسار النفسي في العقود الخمسة الأخيرة والتي يمكن تجسيدها في حقيقة أن العالم العربي لم يشهد مهانة في كرامته ولا اجتياحا لدولته الوطنية من قوى أجنبية بشكل مباشر وغير مباشر في العراق وليبيا وسوريا ..الخ كما شهد عندما تم التخلي عن العروبة والرابطة العربية وتفكك التضامن العربي وموت وسيطرة شعارات قُطرية شوفينية ماتت معها الجامعة العربية اكلينيكيا وتفرغ العرب بعدها لمواجهة بعضهم البعض وليس لمواجهة التحديات المشتركة التي تتربص بهم من قوى دولية وإقليمية.

في مونديال الدوحة عبرت الشعوب العربية في وقت واحد على إدراك جماعي أنهم عندما تخلوا عن مفهوم الأمن القومي العربي الجماعي أصبحت الدولة الوطنية أو القُطرية نفسها مهددة بالانهيار والتقسيم لدويلات طائفية أو عرقية أو مذهبية في ما بات يعرف بتقسيم المقسم وتفتيت المفتت.

ثانيا: إعادة الإعتبار لفلسطين وهزيمة التطبيع مع إسرائيل: مع كل ابتهاج بفوز أو حتى أداء مشرف لفريق عربي كان لاعبو المنتخبات العربية المشاركة الأربعة “السعودية وقطر والمغرب وتونس” ومشجعوهم في الدوحة أو في بلدانهم وكذلك كل مشجعي الدول العربية يقرنون الاحتفال والفرح في الملعب وخارجه ـ أمام كاميرات يتابعها أكثر من 2 مليار من البشر في وقت واحد ـ يرفعون علم فلسطين مع أعلام بلادهم وأحيانا الاكتفاء بعلم فلسطين وحده.

لقد أثبتت أول دورة كأس عالم ينظمها بلد عربي بكل اقتدار أن فلسطين هي القضية المركزية للشعوب العربية مهما تراجع سلم أولوياتها في العمل العربي الرسمي.

في لحظة واحدة أسقطت الشعوب العربية في المونديال “السردية” الإسرائيلية التي أرادت استبدال ايران كعدو للعرب مكان اسرائيل، أو التي وضعت التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع الدولة العبرية فوق حق الشعب الفلسطيني أو تلك التي أدعت أن التعاون في مكافحة الإرهاب مع إسرائيل مقدم على إعادة الحقوق الفلسطينية.

ولو أن الأمر وقف عند حد رفع علم فلسطين أمام كل عين في الكون تتابع كرة القدم لما كان مغزى تعلق الشعوب العربية بأعدل قضية مشروعة على الأرض قد وصلت رسالته كاملة لكل شعوب العالم لولا أنه اقترن بسلوك آخر هو إعلان صريح لكراهية التطبيع مع إسرائيل.

إذ تسببت فظاظة وسائل الإعلام الإسرائيلية والحاحها الاستعراضي المستفز على إجراء أحاديث مع المشجعين العرب في أروقة المونديال إلى إصابة الإسرائيليين بصدمة عصبية نتجت من حجم الرفض والمقاطعة وإعلان النفور الشعبي، بل وعدم الاعتراف بوجود إسرائيل نفسها وأنه إذا كان هناك كيان سياسي يقع بين البحر المتوسط ونهر الأردن فليس سوى فلسطين.

حتى مواطني الدول التي وقعت الاتفاقيات الإبراهيمية كانوا في طليعة المقاطعين والرافضين للتطبيع في مونديال الدوحة الذي يمكن وصفه شعبيا دون أي تزيد بمونديال فلسطين.. بدت هذه الاتفاقيات معه كبيت خائر من رمال انهار في لحظة إجماع شعبي للأمة.

ولزيادة شعور الإسرائيليين بأنهم مازالوا منبوذين فإن الجماهير المصرية التي كانت حكومتها أول حكومة عربية توقع سلاما مع إسرائيل كانت بوصف البي بي سي ووسائل الإعلام الإسرائيلية الأكثر عداوة في إبداء مشاعرها تجاه إسرائيل ووصل التأزم النفسي حد أن صحيفة معاريف القريبة من المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية دعت إلى عقد اتفاق سلام مع الشعب المصري بعد أن تبين فشل الاتفاق الرسمي الموقع منذ 44 عاما في جعل المصريين يتخلون عن فلسطين أو يقبلون باسرائيل، وتشير «معاريف» إلى أنه بينما نحتفل نحن الإسرائيليون بالاتفاق يتجاهله المصريون ويشعرون بأنه عار ينبغي نسيانه.

ثالثا: إعادة الاعتبار للمستقبل العربي وأجياله الجديدة: إذا كان مونديال الدوحة قد رد الاعتبار عموما إلى الشعوب العربية مسجلا بما لا يدع مجالا للشك أنها مازالت طرفا حقيقيا في معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي فإنه رد الاعتبار خصوصا إلى الأجيال العربية الشابة التي ستقود المستقبل العربي وأعطى شعورا عارما بأن هذه الأجيال ربما تكون بصلتها الوثيقة بعصرها قادرة على إنجاز المهام التاريخية المعطلة في: النهضة والتقدم والحداثة والمشاركة في شؤون بلادها العامة التي أخفقت الأجيال السابقة في تحقيقها.

نقول ذلك لأن من قاد الأمة في إعلان مشاعرها تجاه العروبة وفلسطين ونبذ اسرائيل ورفض التطبيع معها مادامت مستمرة في الاحتلال وسفك دماء الفلسطينيين كان هو الشباب العربي سواء الشباب الرياضي من لاعبي المنتخبات المشاركة أو المشجعين. وهو أمر كما يقال لو تعلمون عظيم فبعد أربعة عقود ونصف متصلة من سيل ما سمي بثقافة السلام والترويج للتطبيع وبعد التعديلات الجوهرية التي لحقت مناهج التعليم في العديد من البلدان العربية لتنشئة الأجيال الجديدة على قبول إسرائيل فإن النتيجة كانت صفرا كبيرا.

خرجت من تحت هذا الركام أجيال عربية جديدة متمردة على هذه التنشئة المخالفة للحقيقة والحقوق أجيال شابة تمثل نحو ثلثي السكان العرب وتعرف أنها تنتمي لأمة واحدة ويعرفون من هم أعداء هذه الأمة الحقيقيون ومن هم أصدقاؤها وإلى أي بوصلة يجب أن يتوجه إليها عملهم وسعيهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock