رؤى

مفهوم “السُنَّة”.. والفارق بين “التواتر” و”الإسناد”

في حديثنا المتواصل عن السُنَّة، وصلنا إلى أن السُنَّة المحمدية هي النهج، نهج الرسول -عليه الصلاة والسلام- في تبيان أحكام الله عز وجل كما جاءت في كتابه الكريم. والرسول في نهجه هذا -كان وما يزال وسوف يظل- لنا فيه “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”؛ وذلك كما في قوله جَلَّ جلاله: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” [الأحزاب: 21].

والسُنَّة المحمدية على هذا الوجه، ليست من الْوَحْيِ، بل هي تمثل ـإن شئنا الدقةـ وجه الإسلام العملي. وبالتالي لا يمكن أن تنفصل عن كتاب الله الكريم، بحال من الأحوال.

ذلك أن الكتاب، بما يتضمنه من أحكام الله سبحانه وتعالى، قد جاء في كثير من المواضع، والمواضيع عاما ومجملا، ولذا جاءت السنة نهجا، أي: جاءت الأسوة المحمدية الحسنة بمثابة الشرح والتفصيل لهذه النصوص العامة والمُجملة، وبصورة عملية (الصلاة، أحد الأمثلة؛ وزكاة الفطر مثال آخر).. هذا من جهة.

من جهة أخرى، فإن هناك فارق بين السنة بوصفها نهجا، وفعلا، والحديث الشريف بوصفه قولا. صحيح أن الاثنين صدرا عن الرسول (ص)؛ لكن يبقى من الصحيح أيضا أن السُنَّة هي أعم من الحديث. هذا على اعتبار أن السُنَّة سبقت في وجودها الحديث، وهي التي رافقت دوما نزول الكتاب على المستوى العملي التطبيقي.

فنحن -المسلمين- قد توارثنا أداء الصلاة الإسلامية، كما نؤديها اليوم، بطريق التواتر العملي (ما تواتر فعله من أسوة الرسول، ومن اتباع سنته هذه)، جيلًا بعد جيل. ولم يصلنا عن طريق الأحاديث، التي جُمِع معظمها بعد عقود طويلة من بعثته (ص). وبالتالي لم يحتج أحدنا، في ذلك، إلى مراجعة قول أو رواية.

كما يبقى من الصحيح، كذلك، أن السُنَّة هي “أكثر يقينية” من الحديث. هذا على اعتبار أن السُنَّة قد وصلت إلينا عن طريق التواتر جيلا بعد جيل -كما أشرنا- في حين أن الحديث لم يدوّن إلا بعد قرن ونصف تقريبا من تاريخ ظهور السُنَّة إلى حيز الوجود، وأنه (الحديث) عندما دُوّن، جُمع عن طريق الرواية عن أفراد عديدين (العنعنة).

أضف إلى ذلك، أن اختلاف الطريق والأسلوب في كيفية وصول السُنَّة والحديث كليهما إلينا.. وإن كان يفسر لماذا لم يحدث الخلاف في ما بين أبناء الأمة الإسلامية حول السُنَّة، في حين أنه حدث ويحدث حول الحديث -لم يوضع “علم الحديث” إلا لهذا السبب نفسه- إلا أن ذلك لا يعني التقليل من شأن الحديث؛ بل على العكس.

إنه يعني أن السُنَّة وإن كانت لا تتعادل مع الحديث مهما كانت قوة إسناده؛ فإن الحديث لابد من فهمه في ضوء كتاب الله الكريم، لا العكس -أي ألا نفهمه خلافا لصريح نصوص الكتاب الكريم- وأن التعامل بالحديث لابد أن يلي الكتاب ثم السُنَّة وليس قبلهما، كما هو شائع راهنًا.

وهنا يبدو تساؤل يطرح نفسه.. ما القول في الآية الكريمة [الأحزاب: 21]، التي تؤكد بوضوح أن لنا -نحن المؤمنين- في رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟. ثم إذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل للمؤمنين في الرسول أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فما دلالة ذلك؟

لنا أن نؤكد -بادئ ذي بدء- أنه إذا كان سبحانه وتعالى قد جعل لنا في الرسول أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؛ فلابد لنا أن نجعله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لنا.. فهذا ليس اختيار، بقدر ما هو امتثال لقوله سبحانه؛ ولكن السؤال: كيف؟ ولعل محاولة الإجابة، تتوقف على دلالة أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في آيات التنزيل الحكيم.

لنا أن نشير بداية إلى أن الأُسْوَة بضم الهمزة وكسرها لغة، تعني الحالة التي يتلبّسها الإنسان عند اتباعه لآخر، وتُطلق على الميزة التي من حقها أن يؤتسى بها، وعلى نفس الشخص المؤتسى به؛ وبكلمة هي التأسّي والاقتداء، ومن ثم فإن لها معنى المصدر لا الصفة. وكما يبدو، من المنظور اللساني، فإن ثمة اختلاف بين لفظي القدوة والأسوة ، فالأخير قد يُشير إلى القدوة السيئة وليست الحسنة فقط؛ بما يعني أن مصطلح أسْوَةٌ يحمل دلالة المحمود والمكروه معًا، ولذلك ورد لفظ حَسَنَةٌ كصفة ملازمة للمصدر أُسْوَةٌ.

أضف إلى ذلك وتأكيدًا عليه، أن هناك عدد من الألفاظ المشتقة من لفظ أُسْوَةٌ، في التنزيل الحكيم، تؤشر إلى النهي عن المكروه وهو الحزن أو الندم، مثل لفظ تَأْسَوْا في قوله سبحانه وتعالى “لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” [الحديد: 23].. وأيضا لفظ تَأْسَ الذي ورد مرتين في التنزيل الحكيم، في قوله سبحانه: “قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ” [المائدة: 26]؛ وفي قوله تعالى: “قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” [المائدة: 68].

أما عن لفظ القدوة، فإنه يحمل دلالة المحمود فقط، ويؤشر إلى النموذج الصالح وليس السيِّئ؛ كما في قوله سبحانه: “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ٭ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ” [الأنعام: 89-90].. إذ، يؤكد الأمر الإلهي، المُتمثل في التعبير القرآني “فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ“، ما أشرنا إليه عن دلالات القدوة.

هذا عن الفارق بين الأسوة والقدوة؛ فماذا عن دلالات أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، في السياق القرآني؟ للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock