تعيد الحرب الجارية في غزة تذكيرنا وبشدة بالنكبة. ليس فقط بنكبة فلسطين وما عاشته القضية الفلسطينية منذ 1948، من نكسات وخيبات، بل الأهم بنكبة الوضع العربي كله. ونكباتنا العربية ليست قاصرة على مأساة فلسطين، وإنما متكررة مع أمور عددية من بينها التنمية والديمقراطية والمواطنة واستقلالية القرار. وكل هذه النكبات لها منبع واحد: الفكر. فثمة شيء تعطّل أعلى الرأس. ثمة خطأ جسيم في تكوين وتشغيل العقل العربي، أو باختصار وعيه المعرفي سواء بذاته أو بما حوله من أشياء وأشخاص وأحوال.
أما الأخطاء التي نقع فيها، عندما نتعامل مع بعضنا ومع العالم من حولنا فتدل على تخبُّط واضح في نوع أخر من الوعي، هو الوعي الحركي. والوعيان لا ينفصلان. فكل حركة يسبقها وعي، وكل تصرف يسبقه تصور. وكل سلوك نختاره يعتمد على نوع المعرفة التي نملكها. أعلم أن غيرنا من سكان هذا الكوكب يعانون مثلنا من قصور في الوعي المعرفي ويتخبطون في وعيهم الحركي، ومن بينهم بالمناسبة الإسرائيليين والأمريكيين الذي يأبون أن يغيروا وعيهم المعرفي بنا ووعيهم الحركي في التعامل مع قضايانا. هذا لا اختلاف عليه. لكن وعي الأمة التي أنتمي إليها يهمني أكثر لأنني منها وهي مني، ولأن تغيير وعي الآخرين مسألة تخصهم، ولو كان لي يد فيها فستركز على تغيير وعيهم عني، وهو ما يبدأ بالضرورة من تغيير وعي أنا أولا عن ذاتي، وإعادة النظر في بنية وعيّ المعرفي والحركي معا.
ولا يمكن أن يمر العدوان الإسرائيلي على غزة هذه المرة بسهولة. فهو ليس اعتداءً إسرائيليا نمطيا مثل الاعتداءات الثمانية السابقة التي شنتها إسرائيل على غزة منذ أن أنسحبت منها في 2005. هذه المرة تبدو علامات التغيير أكبر. فإسرائيل لم تعد تكتفي بردع حماس، وإنما تعلن أنها، ومعها الولايات المتحدة، عازمتان على اقتلاع حماس من الوجود. والأمر خطير للغاية إن فعلتا، لأنه يأتي وسط معمعة عالمية وصراع لا يخفى بين الكبار على إعادة تشكيل النظام العالمي. والنظام العالمي لم يتشكل مرة عبر التاريخ إلا بإعادة تشكيل النظم الاقليمية التابعة له أولا. هذه قاعدة لم تتغير في العلاقات الدولية. ونظامنا الاقليمي الراهن هش ورخو وسائل، يشجع الكبار على اللعب فيه والتلاعب به.
وقد سمحت أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها حتى الآن من تطورات- بانطلاق لعبة كبيرة وخطيرة للغاية في منطقتنا. إسرائيل لا تريد إنهاء حماس، وإنما أوضحت بكل تصرفاتها أن وجود الفلسطينيين نفسه في قطاع غزة يجب أن يتغير. يجب أن يرحلوا. لا يهمها ولا يهم عشاقها الغربيون ما يقع لهم. المهم عندها أن يبرد غلافها الساخن إلى الجنوب حتى لو أدى ذلك إلى غليان الغلاف، بل والقلب الجغرافي المصري في سيناء. وواشنطن يصعب عليها أن تكسر بخاطر إسرائيل أو ترفض لها طلب، خاصةً وأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الأبواب. ولهذا السبب، وفي العشرين من الشهر الجاري أرسل مكتب الإدارة والموازنة التابع للمكتب التنفيذي للرئيس بايدن رسالة مطولة تخطت الأربعين صفحة إلى رئاسة مجلس النواب الأمريكي يطلب فيها مبالغ مالية إضافية لدعم أوكرانيا ضد روسيا من جهة ولتقوية إسرائيل ضد حماس من جهة أخرى. ومن بين ما طلبه البيت الأبيض في هذا الخطاب مخصصات تكفي “للمهجرين والمضارين من الصراع الحالي ومن ضمنهم اللاجئين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وكذلك للتعامل مع الاحتياجات المحتملة لأهل غزة الذين سيفرون إلى بلدان مجاورة”.
وتبدو الصورة شديدة الكآبة لو أطلق الإنسان لنفسه عنان التفكير. فتصفية حماس، وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء سيجر المنطقة والعالم إلى حرب إقليمية كبرى. ستتوتر العلاقات المصرية الإسرائيلية، وسيشتبك حزب الله مع إسرائيل، وستُضرب القوات الأمريكية في سوريا والعراق. وبالطبع لن تبقى إيران صامتة، كما لن تقف أمريكا أمامها ساكتة. هناك بنك أهداف تعلن قيادات تشريعية وتنفيذية أمريكية أن الوقت قد حان للقضاء عليه في الشرق الأوسط يضم كل ما يعرف بمحور الممانعة. وأهم من فيه إيران. ولو دخلت إيران فستجلب روسيا معها إلى الصراع. كما أن هناك بنك أهداف أمريكية وإسرائيلية كبير يسهل تصيده في المنطقة وحول العالم لن يتركه الممانعون دون إصابات حارقة.
ربما لا يحدث شيء من ذلك، وأتمنى ألا يحدث شيء من ذلك. لكن إلى الآن وفي ظل غليان المشاعر وسخونة الألسنة وحماقة التصرفات، فإن ما يصدر عن تل أبيب وواشنطن من أقوال وأفعال يقول أننا قد نكون على الطريق. إن لم يكن في هذه الجولة ففي جولات أخرى بعيدة مؤجلة. فالصراع طويل والتناقضات تتراكم.
الغريب في المشهد أن العرب كانوا يتوقعون ذلك، لكنهم انتظروا إلى أن وقع. وعيهم المعرفي بالخطر لم يكن غائباً لكنه كان قاصرا، وبالتالي بدا وعيهم الحركي عندما وقعت الواقعة مشلولا ومتخبطا وعاجزا. والدليل أنهم لم يستطيعوا أن يُدخلوا إلى غزة ولو كوب ماء أو يؤمنوا حق أهلها أثناء الحرب في أبسط المواد الطبية. وكثيراً ما أشار الإعلام الغربي، والأمريكي بشكل خاص، إلى أن العرب يعانون من خلل في الوعي المعرفي وتخبط في الوعي الحركي وأنهم the most group of people who are caught with their pants down بمعنى أنهم اعتادوا أن يؤخذوا على حين غرة.
كانت النكبة تلوح أمام عيونهم قبل 1948، بأعوام لكنهم لم يستبقوا ليدركوا معانيها وتداعياتها. لم يكن لديهم حينها وعي معرفي كاف بتوابعها. ولما أعلن عن تأسيس إسرائيل في ذلك العام تبين أن الوعي الحركي العربي كان مثل الوعي المعرفي قاصر وهزيل فهزمت ستة جيوش عربية أمام مجموعة من العصابات. وتكرر الأمر نفسه مع النكسة في 1967، والاقتحام الإسرائيلي للبنان في 1982، وغزو العراق للكويت في 1990، وحرب لبنان في 2006. وقبل كل ذلك وقعت مآس كثيرة جرحت الكرامة، لا أبالغ إذا قلت أنها تمتد لما هو أبعد من نزول نابليون إلى بر مصر في 1798، ولا يبدو أنها ستتوقف على خلفية الهول الذي تكشف عنه الدراما الجارية الآن في قلب المنطقة.
ولا يستطيع هذا المقال أن يتغافل عما يجري في غزة، لكن ما يعنيه على ضوئها وضوء تجارب مريرة كثيرة سابقة تلك الحالة اللافتة من “اللا تعلم” المعرفي والحركي التي يقع فيها العرب على مدار قرون. وقد وصفهم جورج طرابيشي، صاحب الفكر النقدي البناءّ، بأنهم وبرغم الكوارث الكبرى التي تعرضوا لها منذ ألف سنة لم ينجحوا في تغيير وعيهم بالعالم أو بأنفسهم وأن كل ما فعلوه لم يزد عن بكائيات وصرخات يحاولون بها تخفيف حدة إحساسهم بامتهان الكرامة وتضميد جرحهم النرجسي أمام العالم.
إن القصور في الوعي المعرفي العربي بالغ الألم. وسوف يستمر طالما أن الأسئلة الكبرى لا يجاب عنها. لقد تغير العالم منذ ألف عام فيما العرب، كما وصفهم الفيلسوف المغربي الراحل “محمد عابد الجابري” مازالوا يحتكمون لمؤسسات القبيلة والعقيدة والغنيمة. لم يحدث تنوير عربي عميق يتحدى هذه المؤسسات لا لكي يلغيها وإنما لكي يرشدها، لا ليقضي عليها وإنما ليؤطرها. ولن يتغير الوعي المعرفي العربي إلا مع الحرية، ولن يستقيم إلا بالشجاعة في طرح الأسئلة الصعبة باطمئنان وأريحية. لكن الحرية كما هو معروف غائبة، والاطمئنان ليس له وجود لأن عقلية القبيلة ضيقة كما تعبر عنها كل الانتماءات الطائفية والمذهبية وباقي الانتماءات الضيقة التي تعلو على مبدأ المواطنة وفكرة الندية وقيمة المساواة وضرورة الانصهار بين الجميع. وأيضاً لأن عقلية العقيدة كما غرست في العقل العربي تبعد بالعقيدة عن جماليات الإيمان وتنزع به نحو تصورات سياسية جامحة تنتهي بالتكفير والعنف. وكذلك لأن عقلية الغنيمة حولت الموارد العامة من حق للجميع إلى مرتع للفساد يغرف منها خاصة لا يبالون طالما أن القانون نفسه غنيمة في أيديهم.
لو كانت الحرية والاطمئنان حاضرين على الساحة الفلسطينية لما كان الخلاف قد وصل إلى هذا الحد البشع من الانقسام بين فصيل محاصر يحكم ملايين من المحاصرين في غزة لأنه يضرب إسرائيل، بينما الفصيل الآخر معزول في الضفة لا حول له ولا قوة، لم يأخذ من إسرائيل تنازلا واحدا برغم كل ما قدمه لها من تنازلات. لو لم تتعامل فتح وحماس مع السلطة بعقلية الغنيمة ولو تخلصتا من انتماءاتهما العقيدية الضيقة لكانتا قد سألتا الأسئلة الصعبة بحرية وناقشتاها بهدوء وخرجتا بإجابات وطنية فلسطينية قوية. هل مثلا حماس حركة تحرر وطني أم جماعة إرهابية؟ وهل كانت فتح على حق أم باطل عندما قلدت بعض الدول العربية فانتقلت من منهج الصراع مع إسرائيل إلى منهج التسوية معها.
وتزداد الصورة اليوم تعقيدا لأن الوعي المعرفي المنقسم على ذاته لن ينتج إلا مصائب على مستوى الوعي الحركي. وهو ما نراه اليوم في مأساة غزة. فبينما يتباكى فلسطينيون وعرب في العلن على ضحايا غزة الأبرياء، يتمنون في أحاديثهم الجانبية أن تنزل إسرائيل هزيمة نهائية ساحقة بحماس تقضي عليها مهما كلف ذلك من ثمن. ومأساة غزة ليست إلا حالة واحدة لقصور الوعي المعرفي وتخبط الوعي الحركي معًا. والأمثلة كثيرة ولا حصر لها ولا داعي لتذكير الناس بتفاصيلها لأن أكثرهم عالم بها. لماذا نفشل في الثورات وفي الإصلاح على السواء، ولا ننجح مع الاشتراكية والرأسمالية على السواء، ولا نتقدم في ظل العلمانية والدولة الدينية على السواء. السبب في ذلك أن وعينا المعرفي لم ينضج لنناقش تلك البدائل بحرية واطمئنان. والحرية هي الشرط الصعب للتغيير ليس فقط لما تفرضه السلطات منذ أكثر من ألف عام من قيود وإنما لأن الفرد العربي لا يستوعب أن الحرية ليست حقه في أن يقول ويفعل ما يشاء وإنما تقاس بقدرته على تحمل ما يقوله ويفعله الآخرون. الوعي المعرفي لا يمكن أن يتطور في السر وإنما يحتاج لأن يبنى في العلن. وطالما أن العلن ما يزال مُسوّرا بسجون الرقابة فلن تجد المنطقة أمامها لكل أسف فرصة لبناء وعي معرفي مستنير ولن يكون غريبا وقتها أن تكرر تخبط وعيها الحركي المستطير. ومأساة غزة بالمناسبة هي التاسعة منذ 2005 ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة.