تُعري الحروب أمامنا كل شيء. تظهر لنا الخفي وتكشف الدنيا بأكملها. تُعرّفنا من معنا ومن ضدنا، ومن العدو ومن الصديق. تعلمنا دروسا مؤلمة عن خرائط الظلم والتآمر، ومراكز القهر والخيانة. تفضح دول وسياسات، وتفند دعاوى وروايات، وتثير مناقشات ومجادلات، وتدعو إلى تأملات ومراجعات. وهذا تماما ما فعلته حرب غزة لأنها ذكرتنا بعشر منسيات مستفزة. لماذا مستفزة؟ لأن الخطاب العربي الرسمي ضل الواقع والخيال السياسي معا لأكثر من أربعين سنة، وظل يطارد أوهاما وأباطيل، وهذا في حد ذاته أمر مستفز. والأكثر استفزازا أنه ما يزال إلى الآن يتبناها ويتعلق بها. وألخص ذلك في المنسيات العشرة التالية:
المنسية الأولى: أننا نسينا أن للصراع اسما أصيلا هو “الصراع العربي- الإسرائيلي” تناسى أكثر العرب هذه التسمية وراحوا مثل إسرائيل يتكلمون تارةً عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتارةً أخرى عن الحرب بين حماس وإسرائيل. وكم غريب أن يتبنى كثيرٌ من العرب الرسميين والإعلاميين ذلك المكر اللغوي الإسرائيلي لينشروا سردية صهيونية تروّج لهذا التعريف المختزل للصراع، وذلك أمر مستفز، ليس لأنه يضر فقط بالفلسطينيين ويصفي قضيتهم، وإنما لأنه يَضُرُّ كذلك بكل الدول العربية، بالذات تلك التي لا تكل إسرائيل عن الترويج لها كأوطان بديلة للشعب الفلسطيني.
المنسية الثانية: أننا نسينا أحيانا أن المعركة مع إسرائيل ليست إلا جزءًا صغيرا من معركة أكبر وأوسع وأصعب ما زالت تدور منذ قرون مع الاستعمار، القديم (الاحتلالي) والجديد (الحضاري) وما بعد الجديد (العسكري والحضاري معا). نسينا أن من زرع إسرائيل لا يصلح أن يكون وسيطا محايدا بيننا وبينها. نسينا، أو تناسينا تحت وهم الاستقلال الناقص، أن الاستعمار لم يرفع يده عن المنطقة. بشرتنا عواصم بلدانه -وما تزال- بالتنوير والديمقراطية والحقوق والحريات. ولما جاء وقت الاختبار وجدناها وهي تبارك إسرائيل وهي تقتل بالجملة وتعتدي بوحشية وتنتهك كل الحقوق والحريات. نسينا أن من تأسست تجاربهم السياسية الحديثة على الإبادة يتماهون مع تجربة إسرائيل الشريرة القائمة أيضا على الإبادة. ظننا أنهم يمكن أن يكونوا وسطاء بين العرب وإسرائيل؛ فاكتشفنا أن العرب ليس لهم وكيل دولي يعتمدون عليه ولا وسيط يمكنهم الوثوق به. نسينا أننا بلا ظهر، بل ووثقنا في مستعمرينا السابقين فأعطيناهم ظهورنا فكان لنا ما كان. إن نسيان ذلك لأمر مستفز إلى أبعد الحدود لأننا من جلبنا التهديد بأيدينا.
المنسية الثالثة: أننا نسينا أن حماس فكرة قبل أن تكون تنظيما وأن كل تنظيم لا ينبني إلا على فكرة. التنظيمات يمكن القضاء عليها. أما الأفكار فلا تموت ولا تنسى ولا تقتلع ما لم تتغير الظروف التي تنتجها. وظروف إعادة إنتاج حماس، فكرا وتنظيما، ما تزال قائمة. وإذا جاز الظن في وعيد إسرائيل باجتثاث حماس فسيكون ذلك على مستوى التنظيم وليس على مستوى الفكرة. وفكرة حماس، وأقولها بصراحة كي لا يندفع متعاطف معها إلى الحماس، ليست بفكرة مقدسة، ولهذا يمكن الاختلاف معها وعليها وعلى كل طروحاتها هي وتيار الإسلام السياسي كله. أما إنكار وشجب وإدانة بعض العرب لذلك الشق الخاص في فكرها المتعلق بالحق في المقاومة من أجل التحرر الوطني- فأمر بائس بل ومستفز. قل لي، بل قل للمنكرين المعروفين حاليا “بالصهاينة العرب” ماذا قدّم السلام للفلسطينيين؛ حتى لا يفكروا في المقاومة المشروعة بالقوة؟
المنسية الرابعة: أننا في غمرة الانشغال بالنكبة الفلسطينية الجديدة، نسينا أن العقود الاجتماعية بين الشعوب والحكومات في منطقتنا دخلت نفقا خطيرا، وباتت في وضع لا يعرف أحدٌ مصيره. نكبة 1948، وفقط للتذكير، أسقطت كثيرا من تلك العقود قبل ثلاثة أرباع القرن وأشعلت ثورات وبدّلت نظما. ولا يمكن لعاقل أن ينسى أو يتناسى ذلك. كما لا يمكن لصاحب عقل أن يتغافل عما كشفت عنه حرب غزة من تناقض بين شعوب عربية صدمت بشدة من المواقف الضعيفة لحكوماتها، التي تفوقت بعض دول أمريكا اللاتينية عليها جرأةً، وحكومات عربية مستعدة للتنكيل بشعوبها إن هي أبدت تعاطفا مع غزة يخرج عن البرواز الصوري الضيق الذي تفرضه تلك الحكومات عليها بالأمر. وأي تناسي لهشاشة العقود الاجتماعية العربية الحالية لن ينذر بخير.
المنسية الخامسة: أن البعض منا نسي أن الصراع مع إسرائيل ليس سياسيا؛ بل مجتمعيا ممتدا. وبينما تميل الحكومات العربية باضطراد لتصويره صراعا سياسيا، ربما لأنها اعتادت ألا ترى شعوبها وألا تحترم مشاعرها. أما المجتمعات فلديها ذاكرة وعواطف ومشاعر دينية وقومية وثقافية ساخنة تجعلها لا تنسى برغم كل التطبيع مع إسرائيل أن الأخيرة ما تزال هي الخصم والعدو. والمجتمعات هنا أسبق بكثير على حكوماتها، أو على الأقل مختلفة كثيرا عنها. لا ترى أن حكوماتها تمثلها أو تعبر عن نبضها وآمالها. وتلك مسألة خطيرة تكشف بشكل آخر عن فداحة أزمة الشرعية في البلدان العربية.
المنسية السادسة: أننا نتناسى أن العرب أسوأ من الغرب؛ بل وأحيانا من الإسرائيليين، في الكيل بمكيالين، ليس فقط لأنهم يتزلفون لإسرائيل ويتآمرون على بعضهم، وإنما أيضا لأنهم يتخوفون من أية مظاهر للأسلمة في بلدانهم، فيما لا يبدون معارضة تذكر للإصرار الأمريكي الإسرائيلي على يهودية الدولة. أليس استفزازا أن ينصح الغرب العرب بضرورة بناء دولهم على أسس علمانية، تستوعب كل الأديان، بينما يصر على أن تكون إسرائيل دولة دينية خالصة لليهود. هي ازدواجية غربية مستفزة بلا شك. لكن الأكثر استفزازا منها صمت العرب عن رفضها العلني القاطع.
المنسية السابعة: أننا نتناسى أن مسئولية “حماس” وإن كانت عظيمة إلا أن مسئولية السلطة الفلسطينية أعظم. سوف تتعرض حماس بعد أن تنتهي المعركة لكثير من النقد الفلسطيني الداخلي. أما السلطة فسيبقى موقفها غير قابل للنسيان. فهي مسئولة عن المشهد الفلسطيني بأكمله، بانقساماته وصراعاته وصعوباته. وأقل ما يقال عن خطابها قبل وخلال الأزمة أنه مستفز؛ لأنه شجع إسرائيل على التنكيل بغزة بهذا الشكل وكأنها -أي السلطة- كانت تنتظر هدية من إسرائيل. وإذا كان القضاء على حماس هو هدية إسرائيل للسلطة، فيا ترى ما الذي ستقدمه السلطة لإسرائيل مقابل هذه الهدية؟ أليس ذلك أمر مستفز؟
المنسية الثامنة: أن الحروب عادةً ما تنتهي بسقوط حكومات وتغيير نظم سياسية بأكملها. هذا سيحدث في إسرائيل. وهو أمر ليس بالمهم؛ لأن اليمين واليسار فيها يتساوون في رفض التسوية. ما يهم، بل ويستفز العقل، هو ألا نرى أفقا -من الآن- يوحي بأن الفلسطينيين سيفكرون بعقلانية وروية وجماعية في شكل نظامهم السياسي الجديد؛ حتى لا يُفرض عليهم خيارا أسوأ مما هم فيه، بين مقاومة معزولة في قمقم غزة، وسلطة أشبه بقطعة ديكور لا قيمة لها في “إقطاعة” رام الله.
المنسية التاسعة: أن رأس المال العربي برغم كبر حجمه واتساع انتشاره، ما يزال بلا تأثير سياسي يذكر في مراكز صنع السياسة حول العالم. هناك دول غير عربية حققت بأموال أقل إنجازات أكبر وقلبت توازنات عالمية في مناطقها، بينما رأس المال العربي ما يزال يواصل استفزاز العقل. حجمه كبير لكن أثره في القضية الفلسطينية صفر.
المنسية العاشرة: أن بين العرب من ينسى أو يتناسى أن إسرائيل تكوين عنصري صرف لا أمل في إصلاحه أو اعتداله، وأنها تكوين استيطاني اقتلاعي قمعي صرف. هذا هو جوهرها وتلك هي تركيبتها الوجودية التي تقوم على الترويج اللانهائي لوهم النقاء العنصري والارتباط الحصري بالله. وهي لن تتوقف عن ذلك لأنها إن فعلت سقطت. وبسبب هذا التفكير، اكتسب الصراع العربي- الإسرائيلي آلية عمل تصاعدية جعلته يجدد نفسه بعد نهاية كل حلقة من حلقاته. وبسبب هذه الآلية ستواصل إسرائيل التفكير في طرق جديدة لطرد وإبادة وتصفية وتهجير الفلسطينيين، لأن ذلك من وجهة نظرها واجب مقدس وحتمية لبقاء الدولة. وأمام مثل هذه العقلية والكينونة الميؤوس منها، ستكون التسوية مستحيلة، كما لن يكون سير أي عربي في التطبيع إلا تعبيرا إما عن ضعف شديد في ذاكرته أو دليلا -وبكل أسف- على نية مبيتة لديه للمشاركة في تصفية القضية.
