في معركة الأحزاب (الخندق) تبجّح أحد قادة الطغيان (عمرو بن عبد ود) الفارس الذي لا يشق له غبار- أن يخرج من جيش المسلمين فارس ليبارزه؛ فبرز له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في حين أحجم الصحابة عن قتاله, وهنا قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: “اليوم يبرز الحق كله؛ لمنازلة الباطل كله”.
يشبه هذا الموقف الجليل في الخندق, موقف الأمة العربية أمة محمد اليوم, والمقاومة الفلسطينية بكل أطيافها هي المعادل التاريخي والموضوعي لسيدنا أمير المؤمنين.
توصيف نبينا الكريم الصادق الأمين (عليه وعلي آله الصلاة والسلام) للمعركة بأنها بين الحق كله (المقاومة الفلسطينية) وبين الباطل كله (الكيان الصهيوني الوظيفي وصانعيه منظومة النهب الدولية) هذه المعركة الملحمية لا نظير لها في التاريخ علي ما أظن, فكفاح جنوب افريقيا ضد الكيان العنصري الاستيطاني الإحلالي- كان ممكنا فيه لمناضلي حزب المؤتمر الوطني التزود بالمال والسلاح من دول الجوار, وكذلك الحال في فيتنام التي كانت الصين والسوفييت يدعمونها من خلال الحدود, وكذلك الثورة الجزائرية وجدت دعما ضد أحقر استعمار استيطاني عنصري- يمر عبر دول الجوار, أما فلسطين وفي القلب منها غزة المحاصرة، فظروفها أقسي وأصعب وهنا تكمن عبقرية الثوار الفلسطنيين وعزمهم علي تحدي الطغيان.
يخوض الكيان الوظيفي المعركة وظهره للحائط في ظروف تشبه ظروف نشأته الشائهة والمشوهة في العام 1948، علي رقعته الجغرافية التي اغتصبها بعد سنوات طويلة من خوضه المعارك علي أرض الغير, وهذا سقوط لأحد معالم نظيرية الأمن الصهيوني التي تقوم علي مبدأ (نقل المعركة لإرض العدو).
وعلي حد تعبير المفكر العربي الكبير سيف دعنا، فإن يوم 7 أكتوبر (تشرين) هو المعادل التاريخي والموضوعي ليوم 5 يونيو (حزيران).
في ظني الشخصي أن معركة فلسطين هذه (طوفان الأقصى) سوف تحرر الوطن العربي مرة أخري من التبعية والاستعمار كما حققته منذ خمسة وسبعين عام بعد حرب فلسطين في العام 1948، بقيام ثورة يوليو الأم التي حررت كل الوطن العربي, وإفريقيا وأسيا وامريكا اللاتينية.
ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما كان قبله, إذ أسقط ثلة من المقاومين أسطورة الجيش الذي لا يقهر للأبد, وغيّر الصورة الذهنية عن جنوده وضباطه وتفوقه النوعي والتكنولوجي, وبث الثقة بالنفس لدي جماهير شعبنا العربي العظيم, وبث الرعب والشك لدي سكان مستوطنات ذلك الكيان الوظيفي الهزيل, هل يجرؤ أحد مستوطني ما يسمي بمستوطنات غلاف غزة على العودة للمستوطنات بعد الذي حدث؟ وهل يتصور أحد أن مستوطني مستوطنات الجليل في شمال فلسطين المحتلة يجرءون علي العودة لتلك المستوطنات بعد ضربات المقاومة اللبنانية؟
تقول التقارير أن مئتين وثلاثين ألفا من المستوطنين هاجروا من الكيان وبدأ مزدوجي الجنسية في مغادرة فلسطين المحتلة والألاف ينتظرون المغادرة وهذا انتصار عظيم.
بالإضافة الي تضرر صورة الكيان القادر علي حماية ساكنيه ومستوطنيه, فالخزان البشري الذي يتسبب في حيوية وتجدد شباب الكيان لم يعد يعمل, ولا يستطيع الكيان تشجيع الهجرة إليه.
ومن المآثر العظيمة لمعركة طوفان الأقصى- تجدد قضية فلسطين في العالم كله, وبدء شعوب العالم الحر الانتباه لوحشية وانحطاط الكيان الذي يزعم أنه واحة للديمقراطية, في الوقت الذي ظن الجميع فيه أن تصفية القضية الفلسطينية قد أوشك علي النجاح بصفقة القرن الغامضة التي أعلن زعماء منطقتنا عن تأييدها, يظهر الفلسطيني كما عنقاء الرماد يخرج من الدمار.
شاع في الآونة الأخيرة مصطلح (وحدة الساحات) الذي صكه سماحة السيد حسن نصر الله تعبير عن وحدة الهدف لقوي المقاومة في المنطقة العربية, فقد بدأ تضامن قوي هذا المحور المقاوم في قصف واستهداف العدو الصهيوني وداعمه العدو الأمريكي.
اللافت للنظر ذلك الهلع الذي انتاب منظومة النهب العالمية بعد السابع من أكتوبر؛ دعما للكيان الوظيفي الذي اصطنعوه, من أول يوم بدأ الجسر الجوي بشحنات السلاح والعتاد للكيان من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا, وبدأت الأساطيل وحاملات الطائرات تتوافد علي المنطقة دعما للكيان المهزوم, وردعا لقوي محور المقاومة (إيران وسوريا والمقاومة العراقية وأنصار الله وحزب الله).
قد لا يدرك المقاومون علي الأرض عظمة ما حققوه, وأنهم بالمعجزة التي اجترحوها بكل كفاءة قد أسقطوا وللأبد صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية سواء بالتهجير القسري أو غيره, وأنهم أسقطوا مشروع أنابيب الغاز القادمة من الخليح لحيفا, أو استيلاء الكيان الصهيوني علي ثروة الفلسطينيين من النفط والغاز في المتوسط, وأنهم أنهوا وأوقفوا مشروع الممر التجاري من الهند لحيفا- لا يدرك المقاوم ببساطة كل هذه التغيرات الاستراتيجية.
صمود المقاومة الفلسطينية وتأثير ما حققوه ضد الكيان يصب في مصلحة الصين وروسيا بطبييعة الحال, وهذا ما تبدي في مواقف الصين وروسيا باستخدام الفيتو ضد مشروع قرار أمريكي ضد القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة, وكذلك لأول مرة يستضيف الكرملين وفدا من قيادة حماس في إشارة قوية للمتآمرين في العالم وفي المنطقة إلى أنهم يدعمون المقاومة.
القارئ للتاريخ يدرك وبكل ثقة أن مصير هذا الكيان الوظيفي إلى زوال ليس ضربا بالودع ولا تنجيما ولا إشارة من نبوءة قديمة وأمور غيبية.. موضوعيا وتاريخيا هذا الكيان أصبح عبئا علي صانعيه, وكذلك منظومة النهب الدولية أصابها الوهن, ليفقد الكيان الغاصب أهم أركان أسباب وجوده وهو ردع الدول في المنطقة لضمان استمرار نهب ثرواتهم, ومنع تواصل مصر مع المشرق العربي وضربها إذا حاولت بناء أي نهضة, غير أن قادة العرب كما جحافل جن سيدنا سليمان لم ينتبهوا إلى موته, ومنتظرين أن يأكل النمل منسأته حتي يدركوا.
من أهم ما أحدثه زلزال طوفان الأقصي أنه صحح مفاهيم الناس في الشارع وتصورهم للكيان, فأدركوا سقوط فلسفة السلام والتطبيع, وبروز أجيال جديدة لا تعرف شيئا عن وحشية وهمجية الكيان- أدركت وقد تعمد وعيها بالدم علي الشاشات, وتيقنوا أنه لا سلام في هذه المنطقة سوي بزوال هذا الكيان.
سقطت نظرية حل الدولتين, تجاوزتها الأحداث, فلسطين كاملة من النهر إلى البحر- هي هدف الأجيال الجديدة, وأصبح رموز التطبيع والعقلانية ونظرية الحاجز النفسي يخجلون اليوم من جمهورهم, يحاصرهم الناس ويقاطعونهم.
تبين للناس من خلال عملية (كي الوعي) بعد سنوات طوال أن السلفية والوهابية هي الفيلق الإسلامي في حلف الناتو, إذ تبين للناس أنهم لم يقاتلوا في حياتهم سوي معارك الأمريكي والصهيوني بدءا من أفغانستان وحتي سوريا وليبيا والعراق وعمليات الإرهاب ضد الجيش المصري في سيناء؛ وأن سنوات من فتنة السنة والشيعة لم تؤت أكلها؛ بل أفاق الناس علي حقيقة أن من دعم المقاومة الفلسطينية هم إيران والأسد وأنصار الله الذين تصادف أنهم شيعة.
كما قال جمال حمدان من قبل واستعار مقولته السيد حسن نصر الله (إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت) مقولة صادقة, ويبدو أننا من الجيل الذي سيشهد سقوط الكيان المدوي (وإن الشر الذي زرع في قلب الوطن العربي لابد أن يقتلع يوما) كما قال جمال عبد الناصر.