في محاولتنا الاستمرار في الحديث عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، يأتي حرف “الألف”، ليؤشر إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال لم يثبت الحرف، فإن المصطلح يدل على الجانب المعنوي الوظيفي.
وعبر رحلتنا مع حرف “الألف”، وضمن عديد من الأمثلة على أهمية دلالة هذا الحرف؛ وإضافة إلى أمثلة مُتعددة، كنا قد تناولناها في أحاديث سابقة، سنحاول في حديثنا هذا الاقتراب من مصطلحات قرءانية أُخرى، تؤشر إلى مدى ما يُمثله هذا الحرف من أهمية دلالية، ضمن سياق آيات التنزيل الحكيم.
مصطلح “البَاب”
ورد لفظ “بَابٖ” ومشتقاته في آيات التنزيل الحكيم في “27” موضعًا؛ منها ما ورد في صيغة المفرد، ومنها ما ذُكر في صيغة الجمع؛ ومنها ما ورد مُعرفًا، ومنها ما ورد في صيغة نكرة. و”بَاب”، يدل على “المدخل والمخرج لموضع معين”؛ و”أتى البيوت من أبوابها” تعبير يؤشر إلى “توصَّل إلى الأمور من مدخلها الصحيح، وذهب مباشرة إلى الهدف”.
وعند الاقتراب من مصطلح “بَاب”، في آيات التنزيل الحكيم، نجد أنه ورد في عشرة مواضع، “ست” منها مُعرفًا بـ”ال” التعريف، وفي “الأربعة” الأخرى ورد في صيغة “نكرة”؛ إلا أن المُلاحظة الأهم، هي ورود المصطلح في كل هذه المواضع ثابت الألف، أي مع تثبيت حرف الألف، كمؤشر دلالي على الجانب المادي العضوي للمصطلح.
ولعل ذلك ما يتبدى بوضوح، عبر ورود المصطلح مُعرفًا “البَاب”، في قوله سبحانه وتعالى: “وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ” [يوسف: 25]؛ حيث لنا أن نُلاحظ ورود مصطلح “ٱلۡبَاب” مرتين، في سياق الآية الكريمة. وهنا يبدو من سياق الآية الدلالة المادية لـ”البَاب” ليس فقط لوروده مُعرفا بـ”ال” التعريف، حيث التعريف تحديد وتقييد؛ ولكن أيضا لأن سياق الآية يأتي شاملًا لمصطلحات مادية، عضوية “قَمِيصَهُۥ… سَيِّدَهَا… بِأَهۡلِكَ…”.
ثم يأتي التأكيد على الجانب المادي العضوي في تثبيت حرف الألف في مصطلح “ٱلۡبَاب”؛ وذلك عبر الإشارة إلى “الحركة” حركة “الدخول” من خلاله، كما في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ” [البقرة: 58].. وأيضا كما في قوله تعالى: “وَإِذۡ قِيلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ وَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةٞ وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِيٓـَٰٔتِكُمۡۚ سَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ” [الأعراف: 161].
وهنا، يأتي مصطلح “ٱلۡبَاب” مُعرفًا؛ وفي الوقت نفسه، مُحاطًا بـ”اثنين” من الأفعال الحركية، نعني كل من: “ٱدۡخُلُواْ” و”سُجَّدٗا”، وهي أفعال حركية تؤشر إلى جوانب مادية، عضوية، في هذه الحركة. وهنا أيضا نُلاحظ أهم دلالات حرف “واو” الذي يرد ليؤشر إلى حركة العطف؛ وكذلك، إلى دلالة “الجمع وليس الترتيب”.
إذ يأتي التعبير القرءاني “وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ”، في الآية الأولى [البقرة: 58]؛ في حين يأتي التعبير القرءاني، نفسه، ولكن بشكل مُغاير من حيث الترتيب “وَقُولُواْ حِطَّةٞ وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا”، في الآية الثانية [الأعراف: 161]؛ بما يؤكد أن الحركة العطفية بواسطة حرف “واو”، تؤشر إلى الجمع وليس على الترتيب.
وفي هذا الإطار، إطار المؤشر الدلالي لمصطلح “ٱلۡبَاب”، الذي يؤشر إلى الجانب المادي، العضوي، من خلال تثبيت حرف الألف؛ يأتي مصطلح “ٱلۡبَاب”، مسبوقًا بفعل “الأمر” الدال على الحركة “ٱدۡخُلُواْ”، كما في قوله سبحانه: “وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِي ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا” [النساء: 154].. وأيضا كما في قوله تعالى: “قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ” [المائدة: 23].. حيث يأتي التعبير القرءاني “ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا”، في الآية الأولى [النساء: 154]؛ والتعبير القرءاني “ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ”، في الآية الثانية [المائدة: 23].
مصطلح “بَاب”
ومثلما ورد مصطلح “ٱلۡبَاب” مُعرفًا، مع تثبيت حرف الألف للدلالة على الجانب المادي، العضوي للمصطلح؛ فقد ورد المصطلح أيضا ولكن هذه المرة في صيغة “نكرة”، “بَابٖ”، التي تُفيد العموم.
ففي قوله سبحانه: “جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٖ ٭ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ” [الرعد: 23-24]؛ لنا أن نُلاحظ أن مصطلح “بَابٖ” قد ورد مسبوقًا بالفعل الدال على الحركة “يَدۡخُلُونَ”، الذي يُساهم في الإشارة إلى الجانب المادي، العضوي، لمصطلح “بَابٖ”، والذي يؤكده تثبيت حرف الألف في المصطلح.
أما في قوله تعالى: “يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ” [الحديد: 13]؛ فيبدو، بوضوح، أن مصطلح “بَابٖ” يأتي في سياق جملة قرءانية دالة على جوانب مادية، عضوية، نعني كـ”جزء” من كيان مادي: “سُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ”.
وفي الإطار نفسه، يأتي المصطلح ثابت الألف ليؤشر دلاليا على الجانب المادي العضوي، كما في قوله سبحانه: “وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعۡرُجُونَ” [الحجر: 14]؛ وأيضا، كما في قوله تعالى: “وَلَقَدۡ أَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡعَذَابِ فَمَا ٱسۡتَكَانُواْ لِرَبِّهِمۡ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ٭ حَتَّىٰٓ إِذَا فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا ذَا عَذَابٖ شَدِيدٍ إِذَا هُمۡ فِيهِ مُبۡلِسُونَ” [المؤمنون: 76-77]. ولنا أن نتأمل التعبير القرءاني “بَابٗا… فَظَلُّواْ فِيهِ يَعۡرُجُونَ”، في الآية الأولى [الحجر: 14]؛ وكذلك، “فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا”، في الآية الثانية [المؤمنون: 77].
“بَابٖ” و”أَبۡوَٰبٖ”
إلا أنه، في مرتين ورد مصطلح “بَابٖ”، في سياق واحد مع مصطلح “أَبۡوَٰبٖ”؛ حيث يرد الأخير دون تثبيت حرف الألف للدلالة على الجانب الوظيفي، المعنوي، لمصطلح “أَبۡوَٰبٖ”؛ في حين يرد المصطلح الأول “بَابٖ”، مع تثبيت حرف الألف للدلالة على الجانب المادي، العضوي لمصطلح “بَابٖ”.
يتبدى ذلك، عبر قوله عزَّ وجل: “وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٭ لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَٰبٖ لِّكُلِّ بَابٖ مِّنۡهُمۡ جُزۡءٞ مَّقۡسُومٌ” [الحجر: 43-44]؛ وأيضًا، من خلال قوله عزَّ من قائل: “وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ” [يوسف: 67].
وللحديث بقية.