عندما انتهيت من قراءة رواية المخرج السينمائي خيري بشارة “الكبرياء الصيني” تذكرت ذلك الوصف الدقيق لناقدنا الكبير الدكتور علي الراعي عندما وصف رواية “الحُب في المنفى” للرائع بهاء طاهر بأنها “رواية كاملة الأوصاف” على غرار الأغنية الشهيرة لعبدالحليم حافظ والتي تحمل ذات الاسم في وصف الحبيب المُرتجى والمُرتقب.
ولذلك كررت مع الدكتور الراعي رحمه الله، ذات الوصف. فهذه الرواية البديعة هي كاملة الأوصاف حقا وصدقا، ودون أي قّدر من المُبالغة، وفي ظني أنها لو قُدمت لجائزة البوكر العربية لفازت بها عن جدارة واستحقاق، فهي لا تقل جمالا ومُتعة وإبهارا عن “واحة الغروب” للراحل الكبير بهاء طاهر والذي فاز بها في دورتها الأولى عام ٢٠٠٨.
وحكايتي مع هذا الرواية البديعة تستحق أن تُروى، فقد وصلتني منذ نحوٍ من شهر أو أكثر ولم أشرع في قراءتها عَلى الفور، ليس بسبب عدد صفحاتها التي تجاوزت الخمسمئة صفحة من القطع المُعتاد في الأعمال الروائية، ولا بسبب موضوعها الذي بدا أنه عمل روائي يتحدث عن الصين، ولكن بسبب مؤلفها! فهو المُخرج الكبير خيري بشارة، صاحب الأعمال السينمائية الرائعة والدراما التلفزيونية التي لا تقل جمالا عن أفلامه مثل “يوم حلو ويوم مُر” و”كابوريا” و”الطوق والأسورة” و”آيس كريم في جليم” وغيرها من الأفلام التي تحمل رؤية اجتماعية وتقدمية. ويرجع سبب تأخري في قراءة الرواية هي أني تساءلت: ما علاقة هذا المُبدع في عالم السينما بكتابة الرواية؟!
سؤال بدا لي منطقيا، وهو ما جعلني مُترددا في القراءة. ولكن ما إن بدأت رحلتي مع الصفحة الأولى وكلمات الإهداء إلى صديقه هاني يان، حتى أخذتني حالة السرد الجميل واللغة العربية الفصيحة والبسيطة، مأخذ الجدِّ والسعادة والمُتعة والفرح، حتى أنني انتهيت من القراءة خلال بضع ساعات يومية، موزعة عَلى ثلاثة أيام.
تحية “جيل السبعينيات”
تبدأ فصول هذه الرواية البديعة مع فصل افتتاحي عنوانه “جيل السبعينيات” كأنها رسالة تحية من خيري بشارة لجيله. فإذا عرفنا أنه من مواليد عام ١٩٤٧، فإننا نُدرك أن عمره آنذاك كان يقترب من منتصف عشريناته، حيث تبدو مظاهر وفاء المؤلف لجيله واضحةً.
فمن خلال آدم ابن كونج يونج من زوجته المصرية، روزانا نعيم تادرس يبدو الحنين والحب والإعجاب بثلاثة أسماء من طلاب الانتفاضة الطلابية المُطالبة بضرورة شن حرب شاملة لتحرير الأرض المُحتلة، أولهم طالب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أحمد عبدالله رُزّة، الذي كان زعيما للجنة الوطنية للطلبة في مظاهراتهم العارمة عام ٧٢، أما الثانية فهي سهام صبري، طالبة كلية الهندسة، التي تمتعت بمقدرة خطابية عالية وجسارة نادرة، فقد جمعت بين الروح الثورية وقوة المواجهة. أما الشخصية الثالثة فهي أروى صالح، طالبة الآداب وعضو حزب العمال الشيوعي، والتي عندما التقاها آدم كونج يونج عَلى مقهى ريش، اخترقته عيناها اللتان تشعان عمقا وخجلا وذكاء إلى الدرجة التي هزته وأفقدته اتزانه. لكن هاتان العينان الحالمتان، ودعتا الدنيا في صباح ٧ يونيو ١٩٩٧، بعد أن ضاقت أروى صالح بالحياة وألقت بنفسها من الطابق العاشر.
رحلت وهي في السادسة والأربعين من عمرها، وفي يوم حزين آخر ودعت سهام سعد الدين صبري، زهرة الحركة الطلابية، الحياة في مارس ٢٠٠٣، وفي السادس من يونيو ٢٠٠٦ رحل أحمد عبدالله رُزّة، أيقونة الحركة الطلابية.
بعد هذا الفصل التمهيدي الحزين والذي يحمل طاقة حب لا تُخطئها العين من خيري بشارة لجيله، تبدأ الرواية بالدخول إلى عالم كونج يونج الذي يبدأ بتلك السنة التي حاولت يد الإرهاب فيها اغتيال نجيب محفوظ، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق ١٤ أكتوبر ١٩٩٤، وتنتهي أحداث تلك الرواية في ربيع ١٩٩٧، وبين العامين نقرأ أكثر من ٨٠ فصلا، لكل منها عنوان دال عَلى حدث، ووقائعه ودلالاته وتجلياته الإنسانية والأخلاقية، حتى تُدرك من وقع ورنين الأحداث المُتلاحقة أنك سافرت مع آلة الزمن الى تاريخ بعيد!
“صين” ما قبل الاستقلال
أما موضوع الرواية، ودون الدخول في تفاصيلها التي قد تُجهض مُتعة القراءة، هي قصة مواطن صيني بسيط للغاية وُلد سنة ١٩١٦، هو الابن الأخير بين خمسة صبيان، وينتمي إلى أسرة شديدة الفقر والعوز والحاجة، اسمه كونج يونج وينحدر من إحدى القرى الفقيرة القريبة من بلدة شاندونج والتي لا تبعُد كثيرا عن مقاطعة شانغهاي الصينية التي كانت في هذه الفترة عنوان الصين المُبهر إلى العالم.
لكن كونج يونج، وبسبب الفقر لم يجد مفرا من الهروب من قريته، تاركا زوجته الحامل في رعاية أبيه وأمه. فالعائلة بأكملها تعمل في زراعة الأرض التي يملكها كبار الإقطاعيين والذين بدورهم لا يملكون حرية قرارهم . فبمثل ما كانت عائلة كونج يونج عبيد في هذه الأرض، كان هؤلاء الإقطاعيون هم أيضا عبيد عند سادتهم الإنجليز والفرنسيين وحَمَلَة الجنسيات الأوروبية الأخرى، فضلا عن خضوعهم لسلطة اليابان التي تملك سطوة القوة المُسلحة والتي أخضعت مساحات واسعة من أرض الصين لسلطانها، وعاملت أهلها بازدراء.
في اليوم الأخير من شهر مارس ١٩٣٧، وصل كونج يونج إلى مدينة شنغهاي، وهو في عمر لا يتجاوز ٢١ عاما، باحثا عن مستقبل في مدينة عنوانها الصخب والفوضى والضياع والاغتراب.. ترك قريته ليبحث عن ذاته المسحوقة بالفقر، لكنه وجد نفسه مذعورا من كوابيس العنف والجريمة والقتل والقهر والإذلال في مدينة عملاقة لا يملكها أحد من بني وطنه، فهم عبيد عند تجمع غريب من كل جنسيات الأرض. وهي مدينة مُتعددة الأجناس والأديان والأطماع والفضائح والمؤامرات.
عمل كونج يونج في كل المهن الصغيرة التي من بينها، جَرُّ عربات الريكشا، التي يركبها متوسطو الحال من أبناء الجنسيات الغربية. فالأثرياء منهم يركبون أحدث السيارات.
أما الصينيون فلا يدخلون حدائق هؤلاء السادة المُحتلين ولا قصورهم ولا مكاتبهم ولا أسواقهم ولا نواديهم ولا صالات القمار ولا حتى بيوت دعارتهم!
وفي لحظة من لحظات الخطر، شنت الطائرات اليابانية غارة ساحقة عَلى شنغهاي، لتّدُك معاقل ومُمتلكات وقصور المستعمرين الغربيين، حين دارت رحى الحرب بين اليابان والغرب من أجل السيطرة على مساحات أكبر من الصين التي لا يعرف لها أحد صاحب سوى حكومة تشيانغ كاي تشيك الذي يتزعم حزب الكومنتانج والذي ليس له أي دور، سوى الانصياع لمطالب وشروط حلفائه من دول الغرب.
وعندما أغارت الطائرات اليابانية عَلى شانغهاي، لم تنس في موجتها الأخيرة أن تقصف تلك السفن الراسية في الميناء، والتي للمُصادفة كان كونج يونج قريبا منها عندما كان يجر عربة تحمل روشي، مِغنية الملهى الليلي “حُضن التنين”.
ومع زخّات الرصاص، ودوي القنابل المُنهمرة عَلى السفينة المتوجهة الى أوروبا، لم يجد كونج يونج مفرا لإنقاذ حياته سوى القفز مع المُغنية إلى داخل السفينة التي كانت قد بدأت في الإبحار هربا من القصف. وبعد بضعة أسابيع عبرت السفينة قناة السويس لتواصل المُغنية روشي رحلتها الى أوروبا، وتحديدا إلى فرنسا حيث صديقها الصحفي، بينما قفز كونج يونج من السفينة عند الإسماعيلية، دون أي أوراق ثبوتية.
كونج يونج الذي لا يعرف الكتابة والقراءة، سوى بعض الحروف الصينية، لا يملك من متاع الدنيا سوى حذاء متهالك وملابس رثة، وبعض التعاليم الأخلاقية للحكيم الصيني كونفوشيوس؛ لكنه يملك براءة مُذهلة وقبولا ومحبّة لكل من يقابله. ويمتلك أيضا كبرياءً وعزة نفس وثقة في الذات، لا يملكها الطُغاة والمشاهير وأساطين المال والسياسة.. هو “الكبرياء الصيني” بامتياز.
قبل أن تُبحر السفينة التي تحمله من ميناء شنغهاي، تلحق به امرأة في مُقتبل العمر، تحمل طفلها عَلى ذراعيها وهي في حالة ذُعر هائلة، وهي تمُد يدها بمظروف مُغلق، وتقول له “هذا خطاب كتبته إلى زوجي وأرسلته بالبريد أربع مرات ولم يرُد، هذه هي الخامسة التي أدفع فيها إلى كاتب الرسائل، ولم يعُد معي نقود لكتابة رسالة أخرى.
ويسألها: إلى أين سافر زوجك؟
تجيب: هو في مكان يُسمونه مصر، فيقول لها: لا أرى سوى اسم زوجك لا أرى عنوانا. فتُجيبه بكل براءة: لا يمكن أن يكون في مصر وانج جانج آخر، لم يسافر من قريتنا سواه!
وعندما أمسك كونج يانج بالخطاب الذي لا يحمل عنوانا، نادى عَلى السيدة الصغيرة والفقيرة، يطلب منها أن تأخذ عربة الريكشا التي يملكها، كي تعينها عَلى تكاليف الحياة.
طوال الرحلة من شنغهاي إلى قناة السويس، لم تتركه روشي طالبة الفلسفة والُمحبة للزعيم الوطني سن يات صن، دون أن تحدثه عن تاريخ الصين والفلك والنجوم والمجرّات وحروب أوروبا ونزاعات الإمبراطوريات ومهانة الصين، ولصوصها الكبار من تجار الأفيون والقمار والدعارة. لم تتركه أيضا دون أن تغريه بالسفر معها الى باريس. فهي صحفية ومُغنية ذات صوت جميل.
دعته ليعيش معها، ويقضي حياته في عاصمة النور، لكنه رفض بحسم. فقد وعد السيدة الفقيرة بتسليم خطابها إلى زوجها.
سأل روشي: هل سنمُر عَلى مصر؟
قالت: بالتأكيد، سوف نمُر عبر قناة السويس.
سأل: هل تغيّر اسمها؟
عندها قرر كونج يونج أن يهبط إلى مصر التي لم يتغير اسمها، فقد وعد السيدة الفقيرة أن يسلم خطابها إلى زوجها المفقود.
بداية الرحلة
من مدينة الإسماعيلية بدأت رحلة كونج يونج المصرية بكل وقائعها وأحداثها الكبيرة. وبدت الصين التي انتقلت من عصر العبيد والأقنان إلى عصر التحرر الوطني، غير بعيدة عن المشهد، فكيف يغيب الوطن عن كونج يونج الذي أحب مصر بقدر حبه للصين.
في الوقت الذي شق فيه كونج يونج طريقه إلى القاهرة كانت هناك مناسبة تاريخية وهي حفل الزفاف الملكي، والذي سبقه حفل تنصيب ولي العهد فاروق ابن الملك فؤاد، ملكا عَلى مصر، وهو في عمر قد تجاوز الستة عشر عاما بقليل. ومع بداية الملك الجديد والصغير حُكم البلاد كانت بداية كونج يونج أيضا، فقد شهد من إحدى البنايات المُطلة عَلى القصر الملكي في القبة احتفالات زفاف فاروق وفريدة في ٢٠ يناير ١٩٣٨، بصحبة كنج شان، الطالب الصيني الذي يدرس في الأزهر ويجيد العربية بنفس درجة إجادته الصينية. وعندما قال كونج يونج لصديقه أنه سبق أن شاهد الملك في الصين، سأله كنج شان بدهشة: لم أسمع عن أنه زار الصين! فأجابه كونج يونج: لقد رأيت حفل تتويجه في السينما في شانغهاي! ما عمر هذا الملك ؟ أجابه صديقه: يبلغ الآن ١٨ عاما، والملكة ١٦ عاما، وهي أقرب إلى أن تكون طفلة.
بدا كونج يونج مبهورا بما رآه. حشود هائلة من الأجانب والمصريين تجمعوا ليعيشوا هذا المشهد الذي لا يتكرر كثيرا في حياة الشعوب. فالقاهرة كأنها تسبح في محيط من الضوء حتى كاد الليل أن يصبح نهارا. يرى كونج يونج ما يحدث وكأنه لا يصدق أن ما يراه حقيقة وإنما حلم لم يره من قبل. وبالفعل فإن ما رآه كونج يونج في ليلة الزفاف الملكي بعد ذلك لم يعشه من قبل ولم تره مصر من قبل. فبعد سنوات اندلعت الحرب العالمية الثانية؛ لتعصف بالعالم كله من اليابان إلى الصين، مرورا بمصر وأوروبا والولايات المتحدة التي دخلت الحرب بعد أن دكت الطائرات اليابانية الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور، ودمرته عن آخره، فصار حُطاما. وهو الهجوم الذي قاد اليابان للاصطدام مع القوة الصاعدة الجديدة، والتي قررت إنهاء الحرب العالمية بأول وآخر استخدام للسلاح الذري في هيروشيما ونجازاكي، كعقاب أمريكي لليابان يفوق في أثره كل صور القهر والوحشية والهمجية خلال الحرب.
ما بعد الحرب العظمى
أحداث كبيرة وحاسمة ومفصلية وقعت في مصر والصين خلال سنوات ما بعد الحرب العظمى. حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢، كان رد فعل غاضبا وصارخا عَلى مذبحة الإسماعيلية في اليوم السابق للحريق، والتي راح ضحيتها أكثر من ٥٠ شهيدا من رجال البوليس المصري وعشرات الجرحى عندما رفضوا الانصياع لأوامر القائد البريطاني البريجادير أكسهام، بتسليم أسلحتهم وترك منطقة القناة.
شهور قليلة وتستيقظ القاهرة عَلى صوت جنازير الدبابات التي أطاحت بالملك الشاب وحكومته ونظامه كله. كان ذلك في صباح يوم ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة مصر، أتت بعد ثلاث سنوات من نجاح الجيش الأحمر الصيني بقيادة، ماوتسي تونج في دخول بكين في صباح الأول من أكتوبر عام ١٩٤٩، حيث أعلنت قيام جمهورية الصين الشعبية من عَلى منصة المدينة المُقدّسة والمُطلة عَلى ميدان “تيان آن مين” التي تعني الباب السماوي.
أدت خطوة الإعلان عن قيام دولة العمال والفلاحين إلى سقوط نظام الكومنتانج بقيادة شيانغ كاي تشيك، وهروبه إلى جزيرة تايوان؛ ليؤسس جمهورية الصين الوطنية التي ساندها الغرب واعترف بها بديلا عن الصين الأم، وهو ما تغيّر في مطلع عقد السبعينيات عندما اعترف الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، بالصين الشعبية دون أن تتخلى واشنطن عن دعم حليفتها تايوان.
عَلى هذا النحو نعيش مع الرواية وأبطالها أحداثا كبيرة وتحولات عظيمة في حياة مصر والصين، كان كونج يونج حاضرا فيها من موقعه كمواطن صيني يعيش في مصر، وزوجا لمواطنة مصرية هي روزانا نعيم تادرس، وأبا لشاب مصري صيني هو آدم، الذي جمع بين هويتين تحت سقف بيت واحد. فهو يتحدث العربية التي لا يجيدها أبوه، ويتحدث الصينية التي تجهلها أمه.
وعَلى هذا النحو نعرف تاريخ مصر والصين من خلال تفاصيل الحياة اليومية لعائلة تعيش في القاهرة مكونة من رجل صيني وامرأة مصرية، لتأتي الصورة كاملة وشاملة لتاريخ البلدين في تلك الحقبة التاريخية الهامة. فقد نجح خيري بشارة بمقدرة إبداعية عالية في المزج الدقيق والمُبهر بين حياة كونج يونج، ووقائع الحياة السياسية والاجتماعية المصرية. مثلا حين حاول السفير الصيني استدراجه ليعرف رأي الشارع المصري في الرئيس السادات، أجابه بحسم بأنه يحب الصين كما يحب مصر، ولا يريد أن يورّط نفسه بين البلدين؛ فزوجته مصرية وقد أنجب منها ولدا يعيش هنا ولا يريد أن يواصل حياته في هذه البقعة من الأرض كأجنبي، وهو يشعر أن الازدواجية ستكون عبئا ثقيلا لا يريد أن يتحمله.
هذه الازدواجية التي رفض كونج يونج أن يتحملها تجاه بلديه، مصر والصين. رفضها أيضا في التعامل مع زوجته. ففي الرواية نعرف أن النساء كن ينجذبن له، ومن الطبيعي أن يكون له ضعفه البشري، لكنه لم يكن عبدا لهذا الضعف ولا خاضعا لحسيته وغرائزه، لأنه كان أيضا يملك زادا روحيا جاء معه من الصين، وبهذا الزاد الروحي قاوم غدر الزمان وتقلبات البشر، وهو الذي منحه هذه الكبرياء الصينية.
لم يتوقف خيري بشارة عند الوقائع التاريخية فحسب، فقد بدا أن حكايات صديقه هاني يان عن أبيه مصدرا أساسيا لإطلاق عنان خيال بشارة؛ كي ينسج حكايته المُبهرة عن هذا الصيني المحظوظ، ولكنه وجد أنها في حاجة إلى مُذكرة تفسيرية، وإضاءة إضافية لتجعل لنا الطريق -نحن معشر القُراء- واضحا ومُمهدا، فألحق بروايته في نهاية صفحاتها أكثر من دراسة تاريخية وتعريفية عن ما سُمي بقرن الإذلال الصيني، وعصر الامتيازات، وثورة الملاكمين، ونشأة الحزب الشيوعي الصيني، وماوتسي تونج، والزعيم الوطني سن يات صن، مؤسس الجمهورية الأولى، والحرب الأهلية الصينية، وقيام الصين الشعبية، والهجرة اليهودية إلى شنغهاي في ثلاثينيات القرن العشرين، وعصابات المافيا الخضراء التي جعلت من شنغهاي، مدينة السحر والشياطين!
لكن هذا الإبداع الذي فاق الوصف وجدتُ فيه بعض جوانب النقص التي لا تنقص من قيمة وجمال الرواية. ففي صفحتي ٢٥٩ و٢٦٠ يصف خيري بشارة تشوان لاي بوزير الخارجية الشيوعي الذي التقى بالرئيس عبد الناصر في مؤتمر باندونج بأندونيسيا، وقد اتفقا معا عَلى تأسيس حركة عدم الانحياز!
وهذه المعلومة تحتاج إلى تصحيح؛ فقد ذهب تشوان لاي، لتمثيل الصين بصفته رئيسا لوزراء بلاده بالإضافة لقيامه بمهام وزير الخارجية، ولكن لم يتفق مع الرئيس عبد الناصر على تأسيس حركة عدم الانحياز، التي أعلنت في مدينة بريوني بيوغوسلافيا يوم ١٨ يوليو ١٩٥٦، بعد اجتماع تاريخي ضم رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو والرئيس اليوغوسلافي، جوزيف بروز تيتو فضلا عن الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
تضمنت الرواية نقدا للأوضاع السياسية في الصين في تلك الفترة. يمكن ملاحظة ذلك من خلال الفقرات التي نقرأ فيها عن سفر كونج يونج ضمن وفد صغير برئاسة السفير الصيني بالقاهرة للمشاركة في الاحتفالات التي أقيمت في الصين بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لانطلاق الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى. وفي الرواية نقرأ أن كونج يونج استأذن السفير الصيني للذهاب لزيارة أسرته في قريته، وعندما وجد أنهم يعيشون حالا مزرية من الفقر والفاقة؛ تفوق كل تصورٍ، رغم وعود الثورة الصينية، قرر ترك كل ما يحمله من نقود وملابس وهدايا، حتى الحذاء الذي يرتديه، تركه لابنه من زوجته الصينية، حتى أنه عاد إلى القاهرة حافيا!
عَلى مدى خمسمائة صفحة وأكثر، نجح خيري بشارة في روايته الصادرة عن دار الشروق المصرية في ٢٠٢٣، في كتابة تاريخ مصر والصين منذ عام ١٩٣٦ إلى عام ١٩٩٧، حيث نجح بطريقة مُبهرة وآسرة في كتابة تاريخ البلدين الكبيرين ثقافيا وحضاريا وإنسانيا، بصورة
يعجز عنها كثيرٌ من المؤرخين. فثمة إلمامٌ دقيق وموضوعي لقراءة أحداث غيرت التاريخ، وتدوين وقائع تركت بصماتها الثقيلة عَلى مسار الوطن والإنسان والتطور الأخلاقي والثقافي.