بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
بكل المعايير لا يمكن النظر لإطار اتفاق باريس، الذي قادته الولايات المتحدة الشهر الماضي في اجتماعات حضرها الإسرائيليون والمصريون والقطريون، على أنها مبادرة دبلوماسية ضمن مبادرات واشنطن المتوالية منذ اندلاع “طوفان الأقصى”، وهي بالقطع ليست مجرد امتداد لاتفاق الهدنة المؤقت وتبادل الأسرى الذي تم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. هو في الحقيقة – وكما يتكشف الآن من عملية المفاوضات التي أُطلقت وتُعرف إعلاميًا بمفاوضات القاهرة – يُمثّل أهم نقلة استراتيجية لواشنطن في هذه الأزمة منذ ما يقرب من ١٤٠ يومًا.
تم تسويق “الإطار” للعالم كلّه في سياق متفائل مفاده أنّ حرب غزّة بكل فظائعها وأهوالها تدخل طور النهاية المتدرّجة، وأنه قد يشهد وقفًا لأكبر مذبحة أرّقت الضمير الإنساني في القرن الواحد والعشرين، إلا أنه وما بدا أنه محيّر للعالم أيضًا فإنّ إعلان “الإطار” تبعه مباشرة أكبر حملة تصعيد عسكري في الحرب سواء على الجبهة الرئيسية في غزّة أو في الجبهات الفرعية والثانوية من لبنان إلى البحر الأحمر، ومن الأردن وسوريا إلى العراق.
وهنا بدأت حقيقة “الإطار” في الانكشاف، وهو أنه عبّر عن قناعة استراتيجية أمريكية بأنّ وكيلها وحليفها الإسرائيلي المدلل لن يستطيع تحقيق تصوّرها الذي بدأت العمل به في بداية هذه الحرب ألا وهو أنّ جيش الاحتلال سيكون قادرًا على سحق المقاومة وتصفية “حماس” عسكريًا وسياسيًا في وقت معقول زمنيًا.
تقول أحدث تقديرات المخابرات ورئيس لجنة الشؤون الخارجية الأمريكية في الكونجرس أنّ إسرائيل لم تستطع بعد ما يقرب من أربعة شهور ونصف من تدمير ثلث أنفاق “حماس” ولم تستطع القضاء على أكثر من ٤٠٪ من قوّتها المقاتلة. وهي رغم أنها أضعفت جزءًا من بنية المقاومة إلا أنها تظل عاجزة عن القضاء التام على سلاح “حماس” في أي مدى منظور.
وللتقديرات نفسها ذهبت المخابرات العسكرية الإسرائيلية “أمان” قبل أيام قليلة، بل أضافت إليها أنّ نفوذ “حماس” الشعبي والإداري والخدمي على القطاع يصعب إزالته.
ويصل توماس فريدمان الكاتب الصهيوني الأمريكي إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يعتبر أنه كلما صمدت المقاومة، أو بتعبيره كلما طال أمد الحرب، زادت أعداد مؤيّدي “حماس”، أي زاد عدد الفلسطينيين ومؤيّديهم في شوارع الغرب ممن يؤيدون وجهة نظر مفادها بأنّ “إسرائيل بأكملها عبارة عن مشروع استيطاني استعماري يجب تدميره من النهر إلى البحر”.
ولهذا كلّه انتقلت واشنطن في إطار باريس إلى التصوّر الثاني، وهو تحقيق هذا الهدف ولكن بوسائل مركّبة تجمع ما بين الإيحاء بقرب السلام من ناحية وبين تصعيد الحرب من ناحية أخرى. هذا التصور هو امتداد لتقليد في السياسة الخارجية الأمريكية كان من أشهر أمثلته مشاهد السنوات الأخيرة من حرب فيتنام، فعندما وصل الثعلب كيسنجر إلى قناعة أنّ بلاده لن لن تكسب الحرب بالقتال وأنّ التفاوض سيكون حتمًا هو وسيلة حل النزاع، فإنّ أول قرار أخذه هو تصعيد الحرب لمدة ٣ سنوات كاملة إلى مستويات قصف وتدمير مجنون قتل وأصاب فيها مئات الآلاف من المدنيين وذلك حتى إذا جلس للتفاوض – والمفارقة كانت المفاوضات في باريس أيضًا – مع نظيره الفيتنامي يكون قادرًا بجنون أعنف قصف شهدته فيتنام بل وكمبوديا المجاورة على أن يجني وضعًا تفاوضيًا يحقق أقصى قدر من أهدافه من الحرب رغم علمه بل ويقينه بعجزه عن تحقيقها عسكريًا.
كذلك الأمر عندما فشلت الحرب التي تخوضها أمريكا وإسرائيل على غزّة في كسر المقاومة على مدى شهور، وعندما أخفقت تلك الحرب في قلب الحاضنة الشعبية على المقاومة عبر التدمير والقتل وفرض المجاعة والأوبئة، تحوّلت أمريكا إلى سياسة أكثر شمولًا ودهاءً في اتفاق باريس.
قامت هذه الخطة على تشجيع عملي لنتنياهو على الإعلان عن خطته لاجتياح رفح، ما يعني مجزرة غير مسبوقة لعشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يتكدس منهم نحو مليون ونصف المليون في المدينة الصغيرة الحدودية مع مصر بعد إزاحتهم قسريًا من قبل الاحتلال من بيوتهم في شمال ووسط غزّة.
هذا الاجتياح في التفكير الأمريكي-الإسرائيلي الجديد والمنسّق إذا حدث، سيخلق مجزرة ستؤدي إلي تعميق الهوة الواسعة أصلًا بين الشعوب العربية وحكوماتها، إذ سيُنظر إليها من قبل الشعوب أنها وقفت متفرّجة وسمحت بذبح شعب شقيق دون أن تُحرّك أصبعًا واحدًا، بعبارة أخرى تمكنت واشنطن من لعبة التصعيد واستخدام “العصا” من خلق مصلحة للأنظمة العربية بما فيها السلطة الفلسطينية تدفعها للقيام بدور أساسي في تحقيق أهداف إطار باريس في وقف متدرّج للحرب عن طريق ممارسة الضغط على المقاومة الفلسطينية وتغيير مواقفها الصلبة.
أوحت الولايات المتحدة للحكومات العربية بأنّه مع طول أمد الحرب ووصوله إلى شهر رمضان بكل مشاعره الدينية المتدفقة، مترافقًا مع احتمال وقوع مجزرة في رفح وما قد يعقبها من تهجير قسري لسيناء ونكبة ثانية للفلسطينيين، فإنّ عروشًا عربية جمهورية أو ملكية قد تهتز، وإنّ من نجا من موجة “الربيع العربي” قد لا ينجو من موجة “طوفان الأقصى”. وما حدث كسابقة تاريخيّة بعد النكبة الأولى ١٩٤٨ من تغيير شبه كامل للنظم العربية كرد فعل للإخفاق العربي قد يتكرّر مرة أخرى لو وقعت نكبة ثانية بعد اجتياح مزمع لرفح.
تتحدث مصادر أمريكية صراحة عن تقسيم جديد للعمل بدأ مع إطار باريس، بمقتضاه تتولى أمريكا التأثير على إسرائيل لتقبل بنقاط في “الإطار” وتضغط الدول العربية وتركيا على “حماس” للتراجع عن بعض مواقفها التي رفضها نتنياهو.
تحاول واشنطن دون أي مكياج على الوجه تحويل العرب تحت سيف الاضطراب السياسي الذي قد يهزّ استقرارهم إلى “حصان طروادة” يُنجز لها ولإسرائيل ما عجزت عن تحقيقه بأكثر ترسانات الحرب تقدّمًا وتدميرًا.
باختصار شديد تطلب واشنطن، بعصا الحرب والموت السريع في المجزرة المزمعة، وأيضًا بالموت البطيء بدفع الغزاويين إلى حافة المجاعة أو تفشي الأوبئة، من الدول العربية والسلطة الفلسطينية أن يستخدموا ذلك بمثابة “كارت إرهاب” للمقاومة التي تعرف في أعماقها أنّ حاضنتها الشعبية هي يدها التي توجعها ونقطة ضعفها الكبرى.
يُراد من المقاومة في صفقة الرهائن والهدنات المتتالية أن تتنازل أو تخفف شروطها في ربط إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين لديها بثلاث نتائج هي وقف شامل للحرب وإطلاق كل أو على الأقل نحو ٨٠٪ من الأسرى الفلسطينيين وضرورة انسحاب قوات الاحتلال من القطاع في نهاية عملية التبادل. ويُراد منها أن تقبل بنزع سلاحها وأن تنعم دولة الاحتلال بالهدوء وينشأ وضع أمني تهيمن فيه إسرائيل أمنيًا كما هو الحال الآن في الضفة الغربية. ويُراد للمقاومة أيضًا أن تجبر قادتها الكبار، مثل السنوار وضيف، على مغادرة القطاع وعدم العودة إليه أبدًا، ويُراد منها أن تختفي – ولو لفترة – من المشهد الفلسطيني كلّه في مرحلة ما يسميه الأمريكيون مشهد “اليوم التالي”.
اللعبة أتت أكلها فخرج الرئيس الفلسطيني محمود عباس مطالبًا “حماس” بفعل أي شيء – معناه في القاموس السياسي تقديم أي تنازلات – لكي تتم صفقة إطار باريس، وقال أبو مازن إنه أمام الحرب الشاملة التي تُشن على الشعب الفلسطيني، فإننا نطالب حركة “حماس” بسرعة إنجاز صفقة الأسرى وإزالة أي عقبات!!، وتحدث وزير الخارجية المصري في مؤتمر ميونيخ للأمن في السياق الذي قد يدعم المطلب الغربي في إخراج “حماس” من المشهد الفلسطيني معتبرًا أنها خارج الإجماع الفلسطيني ولا تمثّل الشعب الفلسطيني.
هل اقتصر التخطيط الأمريكي منذ إطار باريس على العصا؟ بالقطع لا، فقد جرى إغراق العرب بأنّ هذه المرة لن تكون كسابقتها من الوعود الأمريكية الكاذبة منذ “أوسلو”، وأنها ستصدق هذه المرة في إنجاز “حلّ الدولتين” وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح.
فالدول التي تتحرق للتطبيع وعدت بأنها ستحصل على جائزة كبيرة لدى الجمهور العربي تزعم بأنّ اتجاهًا للتطبيع سيجلب أخيرًا الدولة الفلسطينية، والدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية وعدت من صندوق النقد الدولي والدول الخليجية بمليارات الدولارات، والسلطة الفلسطينية وجدت نفسها فجأة وقد خرجت من عثرتها المالية وهبطت عليها النرويج من السماء بحل يضمن موافقة إسرائيلية على ضخ أموالها التي أوقفتها تل أبيب شهورًا.
منذ الأسابيع الأولى لحرب غزّة ناقش كاتب هذه السطور أنه من الوارد أن تتمكن أمريكا من قلب نصر “طوفان الأقصى” الفلسطيني العربي إلى هزيمة، كما فعلت في نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973. الآن هذا الاحتمال – ما لم تستطع المقاومة مواصلة صمودها الأسطوري – أصبح بكل أسى ليس فقط واردًا بل مرجّحًا!!.