أثار التهديد الإيراني بالرد على إسرائيل، عقب الهجوم الذي شنه الكيان على القنصلية الإيرانية بدمشق، واستهدف قادة عسكريين إيرانيين هناك- مخاوف مُتعددة من نقل الصراع بينهما إلى “مستوى مختلف”، باندلاع حرب مباشرة بين الجانبين، خاصة مع تصاعد مستوى التوتر بين طهران وتل أبيب في الآونة الأخيرة، إلى مستوى غير مسبوق.
ومن المُرجح ألا يتعجل الجانب الإيراني الرد على ضرب القنصلية؛ وربما تطلب الأمر سقفًا زمنيًا أطول من المعتاد. ولعل ما يؤشر إلى ذلك أن العملية الإسرائيلية هذه المرة، موجهة ضد أرض إيرانية، باعتبار أن مقر القنصلية يتمتع بحصانة دبلوماسية، وفقًا لاتفاقيتي فيينا عام 1961، وعام 1963 الدبلوماسية والقنصلية.
هذا، فضلا عن أن العملية الإسرائيلية نُفّذت بطائرات “إف 35” المنطلقة من الجولان، وليس من فوق البحر المتوسط كما جرت العادة الإسرائيلية؛ وهو ما يُمكن تفسيره، من وجهة النظر الإيرانية، بأن ثمة رعاية أمريكية للعملية وبموافقتها، ما يُمثل مُبررًا إضافيًا لتأخير الرد الإيراني، خشية دخول الولايات المتحدة الأمريكية على خط المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، في حال وصلت إلى المواجهة المباشرة.
وبصرف النظر عن القدرات الإيرانية في إمكانية الرد على العملية الإسرائيلية، وبصرف النظر عن المُقارنة التي يحاولها البعض بين إيران وإسرائيل، من منظور القدرات العسكرية؛ فإن القاعدة التي يمكن الارتكان إليها، في مسألة الرد الإيراني، هي “الوزن الاعتباري” لقيمة محمد رضا زاهدي، قياسًا إلى قاسم سليماني، بالنسبة إلى صانع القرار الإيراني.
لذلك فليس من المتصور أن ترد طهران ردا غير عادي، بمستوى تفجير الأوضاع وفتح الجبهات ضد إسرائيل، في ما يُطلق عليه “جبهات الإسناد” في لبنان والعراق وسوريا واليمن؛ على الأقل من حيث اعتماد طهران “سياسة الصبر الاستراتيجي”، بهدف عدم السماح لتل أبيب بجرها إلى حرب واسعة. إذ في هذه الحال، ستكون الحرب واسعة ومُكلِفة جدا وسوف تُطيح بمعظم الإنجازات التي تمكنت طهران من مراكمتها خلال العقود الماضية، خاصة أنها لم تكتمل بعد.
ويأتي ضمن هذه الإنجازات، إضافة إلى محتوى البرنامج النووي والتقنيات المُلحقة به، “البرنامج الصاروخي” الذي تُدرك طهران جيدًا، أنه يُمثل حجر الأساس في التوتر الناشب بينها وبين الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ سنوات، ربما أكبر مما يُمثله البرنامج النووي.
أيضًا يأتي في هذه الإطار الأذرع الإيرانية، في “جبهات الإسناد”، التي تمتلك بها طهران وسائل ومواقع جيوسياسية قادرة على التحكم من خلالها، وبشكل غير مباشر، على مساحة واسعة من الردع الذي تمارسه ضد إسرائيل.
إلا أنه ومن جانب آخر وبسبب الكثير من التوقعات الإقليمية والدولية، التي ترى عدم تمكّن إيران من الرد بشكل حاسم على العملية الإسرائيلية؛ بل والتندر بمسألة “نحن من يُحدد مكان وزمان الرد المناسب”، فإن النظام الإيراني قد يسعى إلى رد يحفظ له ماء الوجه، خاصة أنه يضمن التضخيم الإعلامي من جبهات إسناده، إن على مستوى الإقليم، أو حتى خارج هذه الجبهات والإقليم.
في المقابل، من جانب أخير، فقد تمكنت إسرائيل من استيعاب المواجهات المختلفة مع إيران، من حيث إدراكها تمامًا لـ”قواعد اللعبة” في المواجهات بينهما، التي تأتي معظمها استخبارية بعيدًا عن المواجهات العسكرية المباشرة.
ومن ثم، يبدو أن إسرائيل لن تذهب، هي الأخرى، في سياسة المواجهة المباشرة، هذا رغم “جعجعة” نتياهو، التي يمارسها منذ فترة طويلة؛ خاصة أن تل أبيب تكتفي بسياسات التهديد لخلق حالة من الردع، بالنسبة إلى إيران؛ على الأقل من منظور الإدراك الإسرائيلي لمدى معرفة طهران بحجم الضمانات الأمريكية لتل أبيب، الخاصة بمواجهة وكبح البرامج العسكرية الإيرانية، سواء البرنامج النووي، أو برنامج الصواريخ البالستية. هذا بالرغم من الخروج الإسرائيلي عن قواعد هذه الضمانات الأمريكية، في بعض الأحيان، ولكن بأسلوب مدروس؛ مثل قيامها بقصف منشآت تخصيب اليورانيوم في إيران، عام 2018.
في هذا السياق يمكن القول بأنه من المتوقع، بحسب الاعتماد على السلوك الإيراني في التعاطي مع الأحداث، طوال سنوات مضت، سيكون الرد الإيراني مباشرا؛ وليس عبر جبهات إسنادها في المنطقة، من حيث إن هذا هو السلوك الوحيد الذي يحفظ لها ماء الوجه، إزاء القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق. ومن المتوقع أيضا أن يكون الرد الإيراني محسوبًا، حتى لا يستفز إسرائيل، فتعاود الرد على الرد الإيراني من جديد.
ويبدو أن هذا الاحتمال هو الراجح لدينا، من منظور أن الوضع القائم اليوم مختلف تماما عما سبق. فالتهديدات الإيرانية، وإن كانت تظهر مثلها مثل تلك السابقة، التي طالما اعتمدت على قاعدة “الرد سيكون في المكان والزمان المناسبين”، مثلما جرت عليه العادة الإيرانية من قبل؛ إلا أن الإحراج الإيراني الحالي هو أكبر من أي وقت مضى.
وبالتالي، لابد من رد إيراني يحفظ ماء الوجه، يُضخّم إعلاميًا، ولا يستفز إسرائيل حتى لا تسارع بالرد على الرد، على الأقل حاليًا؛ خاصة أنها مُنهكة جراء حربها على غزة، ومناوشاتها مع حزب الله؛ هذا، فضلا عن الانهماك الأمريكي في التحضير للانتخابات الرئاسية قبل نهاية العام الجاري.
هذه هي “المعادلة الإيرانية” في الرد على ضرب القنصلية في دمشق.. أما ما عدا ذلك، فإن مجرد التجاوز الإيراني في نوعية الرد، تجاه إسرائيل، يمكن أن يُهدد بخروج الأوضاع في المنطقة برمتها عن السيطرة؛ إذ يمكن لإيران أن تفتح جبهات واسعة عبر جيشها الرسمي والحرس الثوري وجبهات إسنادها في المنطقة، ضد عدد من المصالح الإسرائيلية “الحساسة”، داخليًا وخارجيًا.
لكن في المقابل، لن تتردد إسرائيل في استهداف العمق الإيراني، بمساعدة أمريكية، واحتمال بريطانية أيضا، حتى ولو بشكل غير مباشر؛ ومن ثم سوف تخسر طهران كثيرًا من إنجازاتها التي راكمتها على مدى عقود مضت، والتي تُريد استكمالها في المستقبل المنظور.
وهذا هو مغزى ما يدور الحديث عنه في إيران، بمقولة “الصبر الاستراتيجي”.