رغم تعدد الميليشيات والحركات المسلحة في السودان بوصفها أذرعا للسلطة الحاكمة، وللأحزاب والحركات السياسية في المعارضة أيضا؛ إلا أنه مع اندلاع المواجهات بين الجيش والدعم السريع، التزمت الحركات المسلحة بالحياد، ولم تُعلن أي حركة دعمها لأي طرف.
إلا أن هذا الموقف قد تغير مؤخرًا، بعد إعلان “القوة المشتركة” التابعة للحركات المسلحة في السودان، تخليها عن الحياد في جبهة القتال في شمال إقليم دارفور؛ بحسب ما نقلته صحيفة “إندبندنت عربية”، الأربعاء 17 أبريل الجاري. واللافت، أن تلك القوة المشتركة قد انخرطت مع الجيش في التصدي لمحاولات قوات “الدعم السريع”، الحثيثة هذه الأيام، لاجتياح مدينة الفاشر، عاصمة الإقليم.
هذا الإعلان من جانب القوة المشتركة للحركات المسلحة السودانية، والانخراط من جانبها، في الصراع بين أكبر قوتين عسكريتين في السودان، الجيش والدعم السريع، لابد أن يُثير المخاوف من انزلاق السودان إلى منعطفات خطيرة، تحمل جميعها تداعيات سلبية على مستقبل السودان، وعلى وحدة الدولة السودانية.
صحيح أن هذه الحركات تقاتل إلى جانب الجيش السوداني في دارفور، في مواجهة الدعم السريع؛ إلا أنه يبقى من الصحيح أيضًا ارتباط كثير من هذه الحركات المسلحة بالقوى الإقليمية التي تجاور السودان جغرافيًا، بما سوف يؤدي إلى تزايد الدخول الإقليمي، إضافة إلى الدولي، في الصراع السوداني المستمر منذ أكثر من عام. هذا، فضلا عن التداعيات الخاصة بـ”تشظي” الحركات المسلحة السودانية وكثرة عددها.
إذ، لا يحتكر الجيش السوداني استخدام القوة، حيث تبرز المظالم التاريخية والخلافات حول قضايا التهميش و”العنصرية”، والصراع على السلطة والثروة، في مناطق عديدة؛ وتُعد هذه الإشكالية من أهم أسباب استمرار عوامل عدم الاستقرار وكثرة المطالب الانفصالية، التي تضغط بقوة على أفكار التوافق والوحدة الوطنية، التي سعى إليها كثير من السودانيين إبان ثورتهم المجيدة، في 18 ديسمبر 2018.
ويُثير تشظي الحركات المسلحة وتكاثرها مخاوف كبيرة، كما يُلقي ظلالًا قاتمة حول إمكانية نجاح جهود الاستقرار في المناطق التي عانت نزاعات أهلية، استمرت أكثر من ثلاثة عقود؛ خاصة عندما نلاحظ وجود عدد كبير من هذه الحركات في إقليم دارفور.
أضف إلى ذلك أن دخول الحركات المسلحة على خط الصراع بين الجيش والدعم السريع، وإن كان يمكن أن يُمثل إضافة حقيقية للجيش على الأرض؛ إلا أنه بالتأكيد سوف يزيد من وتيرة الصراع العسكري وغياب هيبة الدولة. لقد كانت فكرة تأسيس جيش وطني موحد في السودان، تُمثل أحد الأهداف التي سعت إليها جموع السودانيين، التي شاركت في ثورة 2018؛ وبالفعل اُتخذت خطوات لتحقيق هذا الهدف، إذ تضمن اتفاق جوبا للسلام تأكيدًا على دمج هذه الحركات وقوات الدعم السريع، ضمن المؤسسة العسكرية السودانية؛ كما تضمن الاتفاق الإطاري التأكيد على الهدف نفسه.
رغم ذلك، لم يتحقق هذا الهدف، وانفجر الصراع بين أقوى قوتين عسكريتين في السودان؛ ولأن معظم الحركات المسلحة لا تحمل رؤية منهجية محددة، فإنها تستغل غياب هيبة الدولة لفرض واقع القوة في مناطق محددة. ومن ثم، فإذا كان الصراع العسكري الدائر حاليًا، قد ساهم في المزيد من غياب هذه “الهيبة”، فإنه يمكن أن يؤدي إلى انفلات عديد من هذه الحركات المسلحة، تحت تأثير احتمالات إثارة النزعات القبلية والإثنية، خاصة أن معظم هذه الحركات يرتبط في التشكيل بالمكون القبلي.
في هذا الإطار، فإن إعلان القوة المشتركة، التابعة للحركات المسلحة في السودان، تخليها عن الحياد في جبهة القتال في شمال إقليم دارفور، يأتي ليؤكد على وجود بعض الحركات المسلحة الداعمة للجيش؛ حيث إن هناك بعض الحركات المسلحة التي دعمت المؤسسة العسكرية، ولم ترفض الإجراءات التي تبناها مجلس السيادة الانتقالي، في أكتوبر2021، رغم رفض القوى المدنية الرئيسة مع عدد من الحركات المسلحة الأخرى لهذه الإجراءات.
وبالنظر إلى هذه الحركات، التي تدعم الجيش، نجد أن من بينها حركة تحرير السودان – قيادة ميناوي، وحركة العدل والمساواة – قيادة جبريل إبراهيم، وأيضًا المجلس الأعلى لنظارات البجا بزعامة محمد الأمين ترك؛ حيث ترى هذه الحركات أن الجيش يمكن أن تكون له “الغلبة” على قوات الدعم السريع؛ وأن من مصلحتها، بالتالي، عدم الدخول في مواجهات مع الجيش؛ والوقوف على الحياد عسكريا، لكن مع دعم الجيش سياسيا، في انتظار مراحل لاحقة سوف تحدد المستقبل السياسي للسودان.
رغم ذلك، ورغم توقيع مجلس السيادة الانتقالي اتفاق سلام، مع عدد من الحركات المسلحة، في 3 أكتوبر 2020، وعلى صيغة محدثة له، في 19 فبراير 2023؛ إلا أن العديد من الحركات لا تزال خارج هذا الاتفاق، وهو ما يمكن أن يُفاقم من الصراعات القبلية والمناطقية، خاصة في دارفور وأبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
على رأس الحركات المسلحة التي رفضت اتفاق سلام جوبا، تأتي الحركة الشعبية لتحرير السودان – قيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان – فصيل عبد الواحد نور؛ ويظل موقف هاتين الحركتين وغيرهما.. من الانخراط في الصراع الدائر؛ رهنًا بظروف سياسية وعسكرية خاصة بمن ستؤول إليه الغلبة، قبل الدخول في عملية سياسية؛ وهو الموقف الذي يمكن أن ينفجر في أي لحظة، إذا ارتأت هذه الحركات أن “الفرصة مناسبة” لتحقيق مصالحها.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن السودان قد دخل، فعليًا، إلى “دائرة مُفرغة”، من العنف والاقتتال، الذي يسمح باحتمال تفجر الأوضاع الأمنية في العديد من أقاليمه؛ خاصة في ظل ما تشهده هذه الأقاليم، من تصاعد الصراع على السلطة “دون الوطنية”، بين النخب السياسية المحلية المتنافسة، والحركات المسلحة، لتأسيس سيطرة محلية على الأرض أو لتأكيد السلطة بالقوة.
في هذا الإطار، يظل وجود قوات موازية للجيش تهديدا للبلاد، وهو خطأ استراتيجي ساهمت فيه كافة الحكومات والديكتاتوريات السودانية التي حكمت السودان منذ الاستقلال، عام 1956؛ إذ، يمكن أن يُشجع وجود هذه القوات والحركات المسلحة على الاستقطاب القبلي والإثني، مما يفتح المستقبل السوداني على مشاهد هي ـ جد ـ خطيرة.
وبكلمة، فإن مستوى الخطورة للأزمة السودانية، يحمل فرصا حقيقية لإمكانية إدخال السودان في حالة من الاحتراب الداخلي الشامل؛ بل وإمكانية تحول الأزمة إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف.