رؤى

تجديد الفكر العربي.. يواجه تحديات العولمة والدين والصراع مع إسرائيل

لعل تراجع الفكرة العربية إلى فكرة نخبوية، وانتهاء المشروع الوحدوي إلى محض مشروع قطري ذي غطاء ـ شعاراتي ـ قومي، في أحسن الأحوال، يغني عن البيان أن نلاحظ بأي درجة من السرعة والسهولة تتخلى تلك الفكرة اليوم، عن جدول أعمالها السابق، كي لا تبقى منها إلا المرجعية الرمزية للسياسة الوطنية، التي طبعت “الحقبة القومية”.

بيد أننا نسارع إلى التأكيد هنا، بأن هذه النتيجة ليست محصلة للأبعاد المستندة إلى العامل الموضوعي وحده؛ ولكن أيضا لطبيعة استجابتنا لهذه الأبعاد وتأثيرها؛ أي ما يتعلق بالعامل الذاتي. إذ، كما يبدو بوضوح، كانت استجابتنا ضعيفة في الحالتين: حالة التعامل مع “قائمة أعمال جديدة”، وحالة التفاعل مع “الحاجات الاجتماعية الجديدة”، الناشئة.

مرجعية مستقبلية

في ما يعنيه، يعني ذلك أن التجربة التاريخية الراهنة لـ”تغير المناخ العقائدي”، أو بالأحرى لـ”تغير جدول الأعمال التاريخي”، تثبت أن تحولًا عميقًا نمر به نحن وغيرنا، في التوجهات والمطالب النفسية والفكرية والسياسية.

ولأن “الفكرة ابنة واقعها الاجتماعي”، ولأن “كل عصر فيه مجال للممكن التفكير فيه، ومجال آخر لما يصعب ـ وربما يستحيل ـ التفكير فيه”؛ فإن الأمر الحاسم، هو مدى إدراكنا العميق، بالضرورة، لطبيعة التحديات المطروحة؛ ونوعية المهمات التي تتطلبها المرحلة التي نعايشها، وما يرتبط بها من “تنمية” ـ جدية ـ للقدرات النظرية والمادية، الرسمية وغير الرسمية، لتحقيق هذه المهمات وإنجازها.

ولعل ذلك يتطلب، على عكس ما هو شائع في تفاعلات ساحة الفكر والسياسة العربيين، أن نتجاوز بـ”المرجعية المستقبلية” ـ تلك ـ “المرجعية الماضوية” الشائعة.. ولعله يتطلب أيضًا محاولة، لا محيد عنها، في إعادة النظر الشاملة لمجمل المعمار الفكري والسياسي الذي ارتكز عليه الفكر العربي، بوجه عام، والفكر القومي العربي، وخطابه الوحدوي، على وجه الخصوص، لتأهيله مجددًا لحمل مشروع نهضوي قادر على مواجهة “المناخ العالمي الجديد”، وما ينطوي عليه من إشكاليات يطرحها “المناخ”، كمرحلة تفيض بالتحديات.

بعبارة أخرى، بما أننا لسنا ـ نظريًا ـ في حاجة إلى انتظار المستقبل، ذلك “الغائب من الزمن القادم بعد حين”، لنتعرف على طبيعة معالمه وتحدياته، بعد أن أصبحت مؤشراته وملامحه ـ فعليًا ـ بين أيدينا؛ لذا، نستطيع من الآن، التعرف على بعض إشكالياته، وبخاصة تلك التي يمكن أن تؤثر على العرب، من منظور مستقبلهم، وعبر إطار الحديث الدائر حول تجديد وتعميق الفكر ومتطلباته المفهومية.

إشكاليات التجديد

عديدة هي، هذه، الإشكاليات.. بيد أننا نود أن نسوق ثلاث منها، كأمثلة، على هيئة رؤوس أقلام تشير أكثر ما تبرهن على ما نود أن نقوله..

أولًا، هناك الإشكالية المتعلقة بـ”كيفية” إدراك المضامين التاريخية والثقل التوجهي “الجغرافي ـ السياسي”، والنسق العام للقيم المعيارية، وكذا آفاق التجليات، والتداعيات المتقاطعة، والمتضمنة كلها في ظاهرة “المناخ العالمي الجديد”.. الذي نعايشه في الراهن.

ولعل الملاحظ، هنا، أن ما تشير إليه سجالات الفكر العربي من منحى للتفكير يسترعي الانتباه، وربما القلق، خصوصًا وأنه (الفكر)، ينزع إلى تجريد هذه الظاهرة ـ التي كان يُطلق عليها “العولمة” ـ من سياقها التاريخي والموضوعي؛ بل وتصويرها على أنها ـ مجرد ـ امتداد للهيمنة الأمريكية، أو أنها محض مؤامرة خارجية على شعوب البلدان “النامية”، ومنها البلدان العربية.

إزاء هذه الصورة الدالة على منحى التفكير ومضمونه، أوقل إزاء الكيفية التي بها تشكلت، وما تزال، “العولمة في المخيال العربي”، والتي تشير بجلاء إلى “العجز” المشار إليه، لم يستطع الفكر العربي، ومن ضمنه الفكر القومي، أن يقدم ـ حتى الآن ـ إجابات شافية حول نقاط أساسية عدة.

من هذه النقاط: هل الظاهرة آلية من آليات نظام دولي جديد، أم: إنها تغير موضوعي (في نمط الإنتاج الرأسمالي)، ساهم في بروز “مناخ عالمي جديد”، نعاصر ملامحه، راهنًا، في هذه المرحلة(؟).. ومنها: هل الظاهرة تمثل إفرازًا من إفرازات الثورة العلمية والتقنية الجارية، أم: إن هذه الثورة شرط ضروري ـ ولكن غير كاف ـ لتحقق الظاهرة وتقدمها وتسارعها(؟).

ويعود السبب الرئيس، لعدم تقديم الإجابات المطلوبة، في نظرنا، إلى أن النخب المثقفة التي قادت الحركة الوطنية، والقومية، والعمل السياسي، في معظم أرجاء الوطن العربي، كانت قد عاشت ومارست، بإعجاب، معظم تطورات “عصرها”، وهو الوضع الذي لا يتوافر الآن بالنسبة نفسها بعد مرور أكثر من عقدين من القرن الحادي والعشرين، الراهن.

بل لا نغالي إذا قلنا: إن قدرًا لا بأس به من تلك النخب، وتوابعها، “أصبحت خارج السياق”؛ فهي، وقد صارت على أبواب عصر جديد، تجد نفسها بعيدة عن روح الثورة العلمية والتقنية وجوهرها وعقائدها. وكذا، الإشكاليات التي تطرحها، عبر ثلاثية أبعادها، التي يمثل كل منها، في حد ذاته، “ثورة” (الاتصالات، والمعلومات، والمرئيات).

الهوية والدين

ثانيا: هناك، أيضًا، الإشكالية الخاصة بكل من الهوية والدين..

فمن جهة، تتعرض الهوية العربية ـ منذ حين ـ إلى التعديل، وأصبح التعريف بالعربي “لا يفي بالمطلوب”، بعد أن أمست الهوية الوطنية، أو القطرية، تحل تدريجيًا محل الهوية القومية، وبعد أن كانت هذه الأخيرة قد شكلت نقطة الارتكاز للمشروع السياسي العربي؛ والحال، أن تمايزات عائدة إلى ملامح التشكيل “الجغرافي ـ  الاجتماعي”، أصبحت ضرورية لاستكمال تحديد الهوية، هوية الإنسان “العربي”.

هذه التمايزات، وإن كانت تمس التاريخ “الماضي”، لكنها تعدل في النظرة إلى “الآتي”، إلى “المستقبل”: الذي ترتسم حدوده في “انتماءات”، أكثر خصوصية (تمايزات القطرية الجغرافية العربية)، وأعلى عمومية (تحولات الانفتاح الاجتماعي العولمي).

من جهة أخرى، تتعرض الهوية الإسلامية، العربية تحديدًا، إلى نوع من المقارنة الخاصة بصورة، أو حالة، “النموذج الآسيوي”، الناجح، ولكن الضاغط، في الوقت نفسه، على العقل و”النفسية” العربية.. فالنهضة التي يقدمها هذا النموذج (ماليزيا وإندونيسيا، وغيرهما من دول جنوب شرق آسيا، كأمثلة): لم تحدث، فقط، في مجتمعات أغلبها لم يكن قد مارس بعد الليبرالية السياسية، ولم يشيد مؤسسات ديمقراطية على “النمط الغربي”؛ ولم تحدث، وحسب، في ظل التمسك بمنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة والموروثة، ومن دون المساس الجذري بها؛ ولكن، إضافة إلى هذا وذاك، قامت، وهذا هو الأهم، في دول يدين بعضها بالإسلام، فأضعفت ـ بالتالي ـ حجة أولئك البعض من العرب الذين دأبوا على الربط بين التخلف الحضاري وتعاظم دور الدين في المجتمع.

الأخطر من ذلك، والأبعد أثرًا، أن الفكر الإسلامي “الآسيوي”، عبر نشاطه الناقد الآن لحال الفكر الإسلامي العربي، أي الفكر الصادر عن جماعات وتيارات غير عربية، كان قد تعاظم دوره المؤثر والمتغلغل في الساحة الإسلامية العربية، عبر عدة عقود سابقة.

هنا تكمن الإشكالية، خاصة إذا لاحظنا أن التاريخ السياسي والفقهي للإسلام، كان قد عرف مراحل كثيرة لعب فيها الفكر الإسلامي “الآسيوي” الدور الأساس في توجيه حركة الإسلام، وبالتحديد في مساراتها السياسية.. فما بالنا بالإمكانيات المتاحة له حاليًا، للعب هذا الدور، في ظل ثورات الاتصالات والمعلومات والمرئيات، وفي إطار التأثير المتعاظم للعمالة الآسيوية (في منطقة الخليج خصوصًا).

من جهة أخيرة، يتعرض الدين إلى الاستخدام كأداة من أدوات تسريع مسيرة الاندماج العولمي، أو تحققها.. والمثال البارز، هنا، هو حملة القوى الأمريكية ضد دول وبلدان متعددة بحجة: “عدم احترام الأديان”. والحال، أن الاقتناع بالعلاقة بين الرأسمالية ومذاهب دينية معينة، ما تزال راسخة لدى منظري الرأسمالية والديمقراطية في الغرب؛ بل، وتجدد هذا الاقتناع ليصبح أحد أهم أدوات دعم مسيرة ظاهرة “التعولم” وتسريعها (من منظور الطرف الأقوى في ظل “المناخ.. الجديد”).

ومن ثم، يبدو أن المجتمعات العربية، وغير العربية، سوف تشهد تصعيدًا أمريكيًا في حملة “حرية الأديان”، ربما أكثر مما نراه في الراهن، الذي يمثل، في اعتقادنا، مجرد مقدمة في اتجاه “السماح بحرية الأجانب في ممارسة التبشير لصالح كنائس غربية تنمي الروح والمبادرات الفردية”.

تحديات الفكر

ثالثًا، هناك، كذلك، الإشكالية التي تتمحور حول المنحنى الانقلابي الذي اتخذه مسار الصراع بين “العرب.. وإسرائيل”، وخصوصًا خلال السنوات “الثلاثين” الماضية، منذ بدايات عقد التسعينات الفائت، أي الفترة الزمنية التي أعقبت مؤتمر مدريد، وما شهدته من أحداث مثلت نقاط انقلابية على مسار الصراع.. وحتى الآن.

وفي ما يبدو، فإن هذا الصراع ـ رغم منحاه الانقلابي، ومحاولات إيجاد تخريجات أمريكية له، في هذه المرحلة ـ يأتي ضمن الصراعات (والتحديات)، التي سوف تستمر، أو سوف تؤجل بالأحرى، إلى عقود قادمة.

ومن الواضح، أن هذه الإشكاليات الثلاث، تُمثل ـ في الحد الأدنى ـ بعض من ملامح التحديات المستقبلية، التي سوف يواجهها العرب والفكر العربي بصفة عامة، والخطاب الوحدوي العربي على وجه خاص. بل، لا نغالي إذا قلنا: إن قدرة هذا الأخير(الخطاب الوحدوي)، على التجدد، إنما تتوقف على الكيفية التي سوف يتعامل بها مع تلك “الإشكاليات – التحديات”، وغيرها.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock