تناول كثيرٌ من العاملين في مجال الفكر الإسلامي، وخاصة الدراسات القرءانية، سواء القدامى منهم أو المُحْدَثين، مسألة “التقديم والتأخير” عبر منظورات مختلفة، بلاغية، ونحوية، فضلا عن المنظور السياقي وغيره؛ إلا أننا سوف نحاول -هنا في هذه الدراسة- تناول قضية التقديم والتأخير من منظور محدد، هو البحث في هذه القضية/المسألة؛ اعتمادا على أُسس “علم الدلالة القرءانية”، الذي يتقاطع -عندنا- ويتكامل مع “علم المصطلح القرءاني”؛ ومع “علم الرسم القرءاني” أيضا.
وقد تساءل أحد الأصدقاء بعد قراءة المقال السابق “التقديم والتأخير.. مقدمة في علم الدلالة القرءانية”، عن أوجه التشابه والاختلاف بين علم “الدلالة القرءانية” الذي نحاول كتابة “مقدمة” له وحوله؛ وبين أطروحة الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو، الذي تضمنها كتابه: “الله والإنسان.. في القرءان، 2007″ خاصة أن العنوان الفرعي للأطروحة يتعلق بـ”علم دلالة الرؤية القرءانية للعالم”.
صحيح أننا استفدنا كثيرا من أطروحة إيزوتسو، ومن ما أتاحه لنا في فتح آفاق جديدة خاصة بالدلالة وعلم الدلالة بشكل عام؛ إلا أنه يبقى من الصحيح أيضا، أن المنهجية التي يعتمدها إيزوتسو تختلف تماما عن المنهجية التي نعتمدها نحن، في هذه الدراسة بأجزائها المختلفة. فالباحث الياباني ينتهج منهجية تعقُّب المفردة اللغوية خلال مرحلتين تاريخيتين، ما قبل نزول التنزيل الحكيم وما بعده؛ ومن خلال تحديد التغير الدلالي الحاصل في المفردة، يصل إلى استنتاج مفاده “أن القرءان الكريم هو الأصل في هذا التحول الدلالي الحاصل في المفردة اللغوية”.
أما منهجيتنا -نحن- التي نعتمدها، فهي “الدورة الدلالية للمصطلح القرءاني في التنزيل الحكيم”؛ فإذا كان علم “المصطلح القرءاني” يمدنا بـ”المعنى” العام للمصطلح، فإن علم “الدلالة القرءانية”، يأتي ليستكمل مرحلة تحديد دلالة المصطلح، وجانبه المادي أو الوظيفي، عبر دراسة السياق القرءاني الذي يرد فيه المصطلح المقصود بالدراسة. إذ، من المنطقي أن دلالة المصطلح، وليس “المعنى”، تختلف تبعا للسياق القرءاني الذي يرد فيه، من منظور “الشُحنة الدلالية” المُضافة إليه عبر العلاقات اللسانية للمصطلح مع السياق الوارد فيه.. وكل ذلك، في الإطار العام لما يمكن تسميته “فلسفة المعنى”.
وما دام الأمر كذلك، فإن علم “الدلالة القرءانية”، بوصفه دراسة لمعنى المصطلح، ومفهومه، من المنظور الدلالي؛ لذا لا يمكن أن يكون إلا “فلسفة” من نوع جديد.. فلسفة تقوم على تصور جديد كُليَّةً للكينونة والوجود.
وهنا، قد يتساءل بعضهم.. وما أهمية “علم الدلالة القرءانية”؟
وهنا، لنا أن نحاول الإجابة بشكل مختصر؛ فائدته هو تحديد دلالة المصطلحات القرءانية، لأجل تصحيح عديد من المفاهيم التي أثارت كثيرا من “اللغط” في الفقه الإسلامي. كمثال، تختلف دلالة مصطلح “وَلَدٞۚ” في آيات التنزيل الحكيم، عن تلك التي يعتمدها كثير من فقهاء المسلمين، حيث اعتبرها الكثيرون أنه يعني “الذكر” فقط، وقاموا بتقسيم المواريث على أساس هذا المفهوم الخاطئ.
ولن ندخل في مجادلات كثيرة في هذا الشأن، إلى أن يحين الوقت المُخصص لذلك، أي عندما نتناول قضايا الميراث والمواريث في التنزيل الحكيم؛ ولكننا -على نحو مُتشدد بالضرورة- نؤكد أن مصطلح “وَلَدٞۚ” يؤشر، من ناحية المفهوم الدلالي، إلى “الذكر والأنثى”، بدليل قوله تعالى: “يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ…” [النساء: 11]؛ بما يعني أن “أَوۡلَٰدِكُمۡۖ”، التي تُمثل جمع “وَلَدٞۚ” تشتمل على الذكر والأنثى؛ إلا إذا كان هناك من يعتبر أن المفرد له معنى والجمع له معنى آخر.
ترتيبا على ذلك، لنا أن نستمر في المقدمة التي تخص علم “الدلالة القرءانية”، عبر التحليل الدلالي للتعبيرات القرءانية، التي يأتي في إطارها التقديم والتأخير.
والمثال الذي نحاول الاقتراب منه في حديثنا هذا، هو قوله سبحانه: “وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ لَكُمۡ وَلِتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦۗ ” [آل عمران: 126]؛ وقوله تعالى: “وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ” [الأنفال: 10]. وكما يبدو، فإن التعبير القرءاني “وَلِتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ”، يختلف من حيث النظم والسياق عن التعبير القرءاني “وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ”، من حيث تقديم وتأخير “بِهِ” في التعبيرين.
وبداية، لنا أن نُلاحظ أن المصطلح القرءاني “بُشۡرَىٰ”، يتعلق بـ”توجه مستقبلي يحمل خبرًا سارًا، لم يتحقق في الواقع بعد”؛ وبهذا المعنى، يكون مصطلح “بُشۡرَىٰ” ـ في حقيقته ـ “باعث على الطمأنينة”. ومن منظور المصطلح “بُشۡرَىٰ” ومعناه، يأتي قوله سبحانه: “يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا” [مريم: 7]؛ وقوله تعالى: “وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا” [الكهف: 2].
أما من حيث التقديم والتأخير، لنا أن نتأمل كيف يؤثر السياق على التعبير القرءاني..
ففي [آل عمران]، يأتي السياق للحديث عن الامتنان والتذكير بنعمة النصر، في “بَدۡرٖ”، والمدد الإلهي، في ظل القِلة والضعف؛ وذلك كما في قوله عزَّ من قائل: “وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٭ إِذۡ تَقُولُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ أَلَن يَكۡفِيَكُمۡ أَن يُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُنزَلِينَ ٭ بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ٭ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ لَكُمۡ وَلِتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦۗ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ” [آل عمران: 123-126].
وهنا، نُلاحظ تقديم “قُلُوبُكُم” على “بِهِ”، بما يعني أن الاطمئنان “وَلِتَطۡمَئِنَّ” يُرَد إلى “قُلُوبُكُم”؛ وهو ما يُفيد تحديد نطاق “الاهتمام” ومناط “الاطمئنان”، فتكون الدلالة “وَلِتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ”.
أما في [الأنفال]، يأتي السياق للحديث عن العتاب على كراهية الخروج إلى “بَدۡرٖ” في أول الأمر، وعلى اختيار أن الطائفة التي تُلاقيهم هي غير ذات الشوكة “وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ” [الأنفال: 7]؛ وذلك كما في قوله عزَّ وجل: “إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ ٭ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [الأنفال: 9-10].
وهنا، نُلاحظ تقديم “بِهِۦ” على “قُلُوبُكُم”، على عكس آية [آل عمران: 126]، بما يعني أن الاطمئنان “وَلِتَطۡمَئِنَّ” يُرَد إلى “بِهِۦ”، أي إلى “ٱلنَّصۡرُ” الذي هو “مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ”؛ وهو ما يُفيد “الاختصاص”، وليس لأجل “الاهتمام”، فتكون الدلالة “وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ” لا بغيره.
ويتبقى، بعد ذلك، الإشارة إلى التعبير القرءاني الذي يتأكد في الآيتين الكريمتين، نعني قوله سبحانه وتعالى: “وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ”. وكما يتبدى بوضوح، يأتي هذا التعبير القرءاني عبر صيغة النفي “مَا” والاستثناء “إِلَّا”، وهي أقوى صيغة من صيغ الحصر في اللسان القرءاني؛ إذ، إنها الصيغة التي جاء بها التعبير عن التوحيد “فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ” [محمد: 19].