في السابعة من صباح الخميس الحادي والعشرين من أغسطس عام 1969، ارتكب العدو الصهيوني جريمة نكراء أُضيفت إلى سجله الحافل بالجرائم ضد الإنسانية والحضارة والتراث البشري- عندما دبرت سلطات الاحتلال في القدس الشريف مؤامرة إحراق المصلى القبلي بالمسجد الأقصى عن طريق سائح أسترالي يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاما يُدعى مايكل دينس روهان، ادّعى الصهاينة فيما بعد أنه مختل عقليا، قبل أن يطلقوا سراحه ويعيدوه إلى بلاده.
الجريمة كانت إحدى حلقات المخطط الإجرامي الهادف إلى طمس الهوية الحضارية الإسلامية لمدينة القدس الشريف؛ والذي ما زالت خطواته تنفذ إلى اليوم؛ بغية تهويد المدينة المقدسة.
أحدثت الجريمة ردود فعل عالمية واسعة؛ دعت مجلس الأمن الدولي للانعقاد وإصدار قراره رقم 271 لسنة 1969، بأغلبية أحد عشر صوتا، وامتناع أربعة دول عن التصويت من بينها الولايات المتحدة الأميركية.. وقد تضمّن القرار إدانة واضحة لدولة الاحتلال، والدعوة إلى إلغاء كافة التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس.
عربيا.. اجتمع القادة في الرباط يوم 25 سبتمبر1969، وقرروا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي ضمت في حينها 30 دولة عربية وإسلامية، وفي العام التالي أنشئت لجنة القدس برئاسة الملك المغربي الحسن الثاني للمحافظة على مدينة القدس والمقدسات الإسلامية بها؛ ضد عمليات التهويد التي تمارسها سلطات الاحتلال.. بعد ست سنوات صدر قرار بإنشاء صندوق القدس.
الحريق الذي استمر لنحوٍ من تسع ساعات، قبل أن يخمده المقدسيون بوسائل بدائية.. ادعت سلطات الاحتلال أنه نَجَمَ عن “تماس” كهربي، ولما أثبت المتخصصون أن الحريق كان بفعل فاعل.. اعترفت السلطات بقصة السائح الاسترالي الذي دخل المسجد من باب الغوانمة، واشعل النار في المصلى القبلي عند الجناح الشرقي.. لكن الفحص الدقيق أثبت أن النيران أتت من خارج المسجد أولا، وليس من داخله.
وإمعانا في الإجرام.. قطع الاحتلال المياه عن منطقة المسجد، وأعاق وصول سيارات الإطفاء التابعة لبلدية القدس؛ لدرجة أن سيارات الإطفاء التي جاءت من مدينة الخليل ومدينة رام الله.. وصلت قبلها!
وكان لمحاولات الإطفاء العشوائية من جانب المقدسيين أثر كبير في امتداد النيران في أجزاء واسعة من المسجد- حسب شهادة الشيخ المقدسي عثمان الحلبي.. وقد أتى الحريق على: منبر صلاح الدين الأيوبي الذي يعتبر قطعة فنية نادرة مصنوعة من قطعٍ خشبية مُعَشَّقة دون استخدام مسامير أو مواد لاصقة، وهو المنبر الذي صنعه نور الدين زنكي، واحتفظ به على أمل أن يضعه في المسجد عند تحريره من الصليبيين، لكنه توفي -رحمه الله- قبل ذلك. وعندما حرر صلاح الدين الأيوبي القدس، نقل المنبر من حلب ووضعه في المسجد.. وفاء للقائد العظيم زنكي.
كما احترق سقف المسجد العمري، وكان من الطين والجسور الخشبية، ومحراب زكريا المجاور للعمري، ومقام الأربعين المجاور للمحراب المذكور، وثلاثة أروقة من أصل سبعة.. تمتد من الجنوب إلى الشمال مع الأعمدة والأقواس والزخارف، وجزء من السقف الذي سقط خلال الحريق.. بالإضافة إلى عمودين رئيسين مع القوس الحجري الكبير الرابط بينهما، تحت قبة المسجد.. وكذلك احترقت القبة الخشبية الداخلية بزخارفها الجبسية الملونة والمذهبة مع جميع الكتابات والنقوش النباتية والهندسية عليها، والمحراب الرخامي الملون، والجدار الجنوبي وجميع التصفيح الرخامي الملون، علاوة على ثمان وأربعين نافذة مصنوعة من الخشب والجبس والزجاج الملون والفريدة بصناعتها وأسلوب الحفر المائل على الجبس لمنع دخول الأشعة المباشر إلى داخل المسجد.. كما احترق جميع السجّاد العجمي الذي لا يقدر بثمن، ومطلع سورة الإسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب، والذي كان يمتد بطول ثلاثة وعشرين مترا إلى الجهة الشرقية، والجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الأعمدة.
استمرت أعمال الترميم لمدة 16 عاما، في الفترة (1970- 1986) ووضع منبر حديدي مؤقت داخل المسجد.. بقي حتى عام 2006، ليرفع ويوضع بدلا منه، منبر صنع في الأردن صورة طبق الأصل من المنبر المحترق، وهو الموجود بالمسجد منذ عام 2006، إلى الآن.
وما زالت جرائم العدو الصهيوني مستمرة بحق شعبنا الفلسطيني ومقدساتنا وتراثنا على كامل التراب الفلسطيني.. وما زال الضمير العالمي متغافلا بفعل تحكم صاحب القرار الأمريكي الداعم للعدو الصهيوني.. وما زال العرب يغطون في سباتهم العميق، بعد عقود من الاستسلام للكيان الغاصب بدعاوى السلام الزائف التي بدأت قبل نحو من خمسة عقود.. وما زال البعض يروّج لها بتبجح لا نظير له.