رؤى

دلالة “شَهِدَ”.. والفارق بين صيغتي الفعل قرءانيًا

لعل مما له دلالة، في مسألة مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، أن اعتناق الإسلام “دينا ومُسْتَقَرا” يبدأ بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسولُ الله”؛ وهذه الشهادة بالتوحيد وبالاعتراف بالرسول، محمد عليه الصلاة والسلام، هي “البوابة الرئيسة” للدخول في هذا الدين “الإسلام”. ومن هنا، تتجلى أهمية هذا المصطلح الإنجازي، أي “ٱلشَّهَٰدَةِ”، والوضع المميز له في الإسلام، وفي كتابه المبارك القرءان الكريم.

ومن ثم، يمكننا إدراك كم يزخر مفهوم “ٱلشَّهَٰدَةِ” بالثراء في آيات التنزيل الحكيم؛ حيث نجد “159” موضعا لورود هذا المصطلح، بمختلف مشتقاته.

وصلنا في حديثنا السابق، حول “مقدمة في دلالة فعل شَهِدَ”، إلى التأكيد على اختلاف صيغ “الفعل” في اللسان العربي، ما بين الصيغة التفعيلية والصيغة التقريرية؛ إذ بخلاف الصيغة “التقريرية” التي تستتبع فعلا أو ينتج عنها، فالصيغة “التفعيلية” للفعل، هي تلك التي يُربط من خلالها بين القول والفعل.. كمثال: في قول “أعد بـ…”، فإن الوعد ذاته التزام عن طريق الكلمة/اللفظ؛ وكما في “أشهد بـ…” أو “أشهد أن…”، فإن ملفوظ “الشهادة” فعل قضائي واعتراف بواسطة الكلمة/اللفظ، حتى قبل أن يُحدد الناطق ما يُشهد عليه.

بعبارة أخرى، فإن الفعل “أشهد” يعتبر إنجازيا (تفعيلي)، عندما يستخدم في صيغة المضارع ومع ضمير المتكلم فهو “قول/فعل”؛ بمعنى أنه يُعد تعبيرًا لغويًا حيث ينبغي النطق به، فضلا عن كونه حقيقة واقعة لأنه “قيام بالفعل”.

بهذه الصيغة التفعيلية، “الإنجازية”، يرد فعل “شَهِدَ” في القرءان الكريم، في “أربعة” مواضع.. أول هذه المواضع، هو قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ” [الأنعام: 19].

وقد أكدنا هناك على أن الفاعل القائم بالشهادة يرفض أن يشهد ضد الحقيقة، ألا وهي “وحدانية الله”؛ وأن الصيغة التفاعلية لفعل “شَهِدَ”، تتضح عبر الخلاصة التي ينتهي إليها عرض عملية الإثبات بالبرهان؛ بداية من السؤال: “قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ”؟ مرورًا بالاحتكام إلى الله تبارك وتعالى ليحكم بين النبي عليه الصلاة والسلام، ومُشركي مكة الذين يشهدون بوجود آلهة أُخرى مع الله عزَّ وجل؛ وصولا إلى رد النبي بالصيغة التفاعلية “قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ”.. وهو رد يندرج في ما يُملى على النبي بصيغة الأمر، من الذي أوحى القرءان إلى نبيه، الله عزَّ وجل، بصيغة الأمر في الفعل “قُلۡ”.

ونُضيف هنا أن التمييز بين ثنائية الأشخاص، كما يبدو في الآية، تظهر بالتضاد بين “أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ”، وهي قيمة تقريرية للفعل “شهد” تعرض شهادة زور، عبر التعبير القرءاني “أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ” وبين قيمة تفعيلية للفعل “شهد” على لسان النبي سيقت لرفض عقيدة باطلة، من خلال التعبير القرءاني “قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ”.

ولنا أن نُلاحظ أن صيغة الأمر، التي تسبق القيمة التفعيلية للفعل “شهد”، في هذه الآية، تعطي السياق القرءاني قوة خطابية في التصريح الأعظم الذي يليها “قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ”.

أيضا لنا أن نُلاحظ أن “شَيۡءٍ” اسم عام من الأجناس ذات العموم، ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودا أو صفة موجود أو معنى يتعقَّل ويتحاور فيه؛ ومنه قوله عزَّ وجل: “فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ ٭ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗاۖ ذَٰلِكَ رَجۡعُۢ بَعِيدٞ” [ق: 2-3]. أما في حال ورود “شَيۡءٍ” قبل اسم جنس، فإنه يأتي لقصد التقليل؛ كما في قوله عزَّ من قائل: “وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ” [البقرة: 155].

كذلك لنا أن نُلاحظ عدم صحة الوقوف عند لفظ الجلالة في الآية “قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ”؛ لأنه من غير الصحيح إطلاق اسم “شَيۡءٍ” على الله سبحانه وتعالى، كما قال البعض من القدماء.. ليس، فقط، لأن قوله سبحانه: “ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ”، يقع ـ لسانيًا ودلاليًا ـ جوابًا على التساؤل “أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ”؛ ولكن أيضا -وهذا هو الأهم- لأن إطلاق اسم “شَيۡءٍ” على الله سبحانه وتعالى، يتناقض مع نفي “الشيئية” عنه تبارك وتعالى “لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ”، الذي يؤكده قوله سبحانه: “فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ” [الشورى: 11]. أي، ليس “مثل مثله شيء”، من حيث إن حرف “الكاف” في “كَمِثۡلِهِۦ” هي للتشبيه.

أما الموضع الثاني، الذي يتضمن قيمة تفعيلية للفعل “شَهِدَ”، فيأتي في السورة نفسها [الأنعام]، في خطاب موجه من الله تبارك وتعالى إلى معشر الجن والإنس؛ وبهذا المعنى، فإنه خطاب موجه إلى المجتمع الكبير والمتباين، بشقيه، لـ”ٱلشَّهَٰدَةِ” لأجل تبرئة ساحتهم. رغم ذلك، فإنهم “يشهدون” على أنفسهم “أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ”.. وذلك، ما يتبدى من خلال قوله تعالى: “يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ” [الأنعام: 130].

هنا، في هذه الآية الكريمة، يتحول الفعل “شَهِدَ”، من صيغة القيمة التفعيلية في قوله سبحانه: “قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ”، إلى القيمة التقريرية في قوله تعالى: “وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ”. إذ، عبر فعل القول “قَالُواْ”، الذي يؤكد فعل الشهادة “شَهِدۡنَا”، تأتي القيمة التفعيلية للفعل “شَهِدَ”، الذي يبقى فعلا يربط الواقع “غير اللغوي” بالفاعل، بحيث يكون الشاهد جزءا من إقراره بما يشهد عليه.

هذا، في ما يخص صيغتي الفعل “شَهِدَ”..

إلا أن الملاحظة التي يتوجب ذكرها، هنا، تتعلق بخصوص الخلاف في تفسير هذه الآية الكريمة.. نعني الخلاف التفسيري حول التعبير القرءاني “أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ”؛ وهو الخلاف الذي يتمحور حول “مِّنكُمۡ”، وما إذا كانت تعني من “ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ” أم من “ٱلۡإِنسِ” فقط؟.. ولا ندري لمَ هذا الخلاف بين المفسرين، وأمامهم قوله عزَّ من قائل: “وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ” [الأحقاف: 29]. فمن الواضح، عبر السياق القرءاني للآية، أن أولئك الجن الذين “وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ”، كانوا “رسل الرسل”، فكانوا رسلًا لله تعالى.

يتأكد هذا بقوله عزَّ وجل، في الآيتين التاليتين مباشرة لهذه الآية: “قَالُواْ يَٰقَوۡمَنَآ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٭ يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ” [الأحقاف: 30-31].. حيث توضح الآيات الكريمة، كيف أن الجن الذين “وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ”، قد احتجوا بكتاب “أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ”؛ ومن ثم، فقد كان عندهم خبر عن هذا الكتاب الذي جاء بعده “ٱلۡقُرۡءَانَ”، أي الكتاب الذين قالوا عنه “إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَٰبًا”. وتأتي خاتمة الآيتين، لتؤكد أن أولئك الجن، كانوا “رسلًا للرسول” بدليل قوله تبارك وتعالى: “يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ”.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock