رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة مصطلح “ٱلۡأَدۡبَارَ” المادية

ورد كل من مصطلحي “ٱلۡأَدۡبَارَ” و”ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، بهذين الشكلين المختلفين، رسمًا قرءانيًا، في آيات التنزيل الحكيم. ويعود كل منهما إلى الأصل اللساني “دُبُر”، الذي هو “آخر الشيء وتابعه من خَلْفُه”، والذي ورد هو ومشتقاته في القرءان الكريم 36 مرة. وكما هو واضح فإنهما يأتيان في صيغة الجمع؛ في الأول “ٱلۡأَدۡبَارَ”، وردت الكلمة ممدودة الباء بالألف؛ كما وردت أيضا في الثاني “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، بسكون الدال ومدت الباء بالمدة فوقها للجمع دون ألف. وهو ما يعني الاختلاف الدلالي بين ورود المصطلح مع تثبيت حرف الألف، عن وروده دون هذا التثبيت.

وفي حديثنا السابق “الرسم “القرءاني.. ودلالة مصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ” الوظيفية”، وصلنا إلى أن المصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، يؤشر إلى الجانب الوظيفي للمصطلح، من خلال قوله سبحانه وتعالى: “وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا” [الإسراء: 46].. وعبر قوله تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ” [محمد: 25].

ثم، يتأكد الجانب الوظيفي للمصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، إضافة إلى ما سبق، في قوله سبحانه وتعالى: “فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَٰرَهُمۡ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٞ وَٱمۡضُواْ حَيۡثُ تُؤۡمَرُونَ” [الحجر: 65]؛ حيث نُلاحظ أن “وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَٰرَهُمۡ” تأتي كوظيفة تتبع، تؤشر إلى عدم الالتفات إلى الوراء.

هذا عن مصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، الذي يأتي دون تثبيت حرف الألف؛ فماذا عن مصطلح “ٱلۡأَدۡبَارَ” الذي يرد في التنزيل الحكيم مع تثبيت حرف الألف؟

مادية “ٱلۡأَدۡبَارَ”

إذا كان المصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، الذي ورد في ثمانٍ من المواضع؛ يأتي في آيات التنزيل الحكيم رسمًا قرءانيًا، بدون تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح؛ فإن المصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَارَ”، الذي يرد في أربعة مواضع، يأتي في آيات التنزيل الحكيم رسمًا قرءانيًا، مع تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح.

يتبدى ذلك بوضوح عبر قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ” [الأنفال: 15]؛ وهنا نُلاحظ أن “فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ”، أي لا تعطوهم ظهوركم لتلوذوا بـ”الفرار”، وهي إشارة إلى “الفرار” المادي العضوي من المعركة.

وهو نفس المعنى الذي يأتي في قوله تعالى: “كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٭ لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ” [آل عمران: 110-111]. وإن كانت المسألة هنا في هذه الآية الكريمة معكوسة عن الآية الكريمة السابقة [الأنفال: 15]؛ إذ “يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ” تعني أنهم يعطوكم ظهورهم ليهربوا بما يؤكد على الجانب المادي العضوي، لمصطلح “ٱلۡأَدۡبَارَ”.

ثم يتأكد هذا الجانب للمصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَارَ” إضافة إلى ما سبق، عبر التعبير القرءاني “وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ”؛ في قوله سبحانه وتعالى: “وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ” [المائدة: 20-21].

أما في قوله عزَّ وجل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا” [النساء: 47]؛ لنا أن نُلاحظ، دلالة السياق القرءاني “مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا”، حيث إن عملية “الطمس” تعني “تغيير معالم الشيء وإخفاء الملامح المُمَيِزة له”، أي إلغاء ملامح الوجوه ومسحها؛ ومن ثم يأتي التعبير القرءاني “فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ”، ليؤكد على الجانب المادي، العضوي، للمصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَارَ”، من حيث إن سياق الآية يؤشر إلى تغيير مادة الوجه “نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا”.

“لَدَا” و”لَدَى”

ضمن المصطلحات القرءانية أيضا التي تختلف دلالاتها باختلاف الرسم القرءاني لها، يأتي كل من “لَدَا” مع تثبيت حرف الألف، أي رسمها “قائمة” و”لَدَى” دون ذلك التثبيت، أو رسمها “مقصورة”؛ كمؤشرين على الاختلاف الدلالي بينهما.

ففي قوله سبحانه: “وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ” [يوسف: 25]؛ يبدو بوضوح أن سياق الآية الكريمة يتضمن عددًا من المصطلحات القرءانية، التي تؤشر إلى الجانب المادي العضوي، مثل “وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ”، “وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا”، “وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ” فهذه التعبيرات القرءانية، وإن كانت تُعبر جميعها عن الحركة، بمؤشرات “الأفعال” (قَدَّتۡ، أَلۡفَيَا، ٱسۡتَبَقَا)؛ إلا أنها – في الوقت نفسه- تدل على الحركة المادية بمؤشرات “الأسماء” (قَمِيصَهُۥ، سَيِّدَهَا، ٱلۡبَابَ).

ومن ثم يأتي التعبير القرءاني “وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ”، دالًا في هذا الإطار، إطار الجانب المادي العضوي للتعبير بكامله؛ وهو ما يؤكد -من جديد- أن تثبيت حرف الألف في “لَدَا”، إنما يأتي للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح؛ هذا، فضلًا عن كونه يأتي بين مصطلحين يحملان دلالات مادية “سَيِّدَهَا ، ٱلۡبَابِۚ”.

ولنا هنا أن نؤكد على عدة ملاحظات، منها: أن بداية الحركة، في هذه الآية الكريمة، هي “وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ” حيث الاستباق هو “طلب السبق إلى الشيء”، وهو ما كان بين “يُوسُف” عليه السلام و”ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ”. ومنها: “وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا” التي تُشير إلى ما كانت المرأة تُنادي به زوجها، حينذاك؛ إذ لم تذكر الآية “سيدهما” لأن “يُوسُف” عليه السلام لم يكن مملوكًا لذلك الرجل في الحقيقة. ومنها: “إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ” وهو تعبير عن طلب السجن “المُخفف”، لأن السجن لا يتم التعبير عنه بهذه العبارة؛ وإنما بحسب ما يؤكد فخر الدين الرازي في كتابه “التفسير الكبير ومفاتيح الغيب”، يُقال “يجب أن يُجعل من المسجونين”، تماما مثلما قال “فِرۡعَوۡنَۚ” لـ”مُوسَىٰٓ” عليه السلام؛ في قوله عزَّ وجل: “قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذۡتَ إِلَٰهًا غَيۡرِي لَأَجۡعَلَنَّكَ مِنَ ٱلۡمَسۡجُونِينَ” [الشعراء: 29].

هذا عن مصطلح “لَدَا”؛ أما مصطلح “لَدَى”، فهو يأتي في قوله تعالى: “وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡأٓزِفَةِ إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَٰظِمِينَۚ مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ” [غافر: 18]. وكما يبدو، فهو يؤشر إلى الجانب المعنوي، الوظيفي؛ إذ إن التعبير القرءاني “ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ”، لا يعني أن “ٱلۡقُلُوبَ” قد وصلت إلى “ٱلۡحَنَاجِرِ”، أيًا كان المكان الذي توجد فيه هذه “ٱلۡقُلُوب” (حيث إن هناك اختلاف على هذا المكان بين “الصدر”، وبين “الدماغ”، وهو ما سنحاول بحثه في مقالات منفردة بهذه المسألة)؛ بقدر ما يؤشر المصطلح إلى الجانب المعنوي لهذه “ٱلۡقُلُوبَ”، في إحساسها بـ”مخافة الحساب الإلهي”، وذلك في “يَوۡمَ ٱلۡأٓزِفَةِ”.

أما ما يذكره البعض، نقلًا عن أبو عمرو الداني، في كتابه “المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار” (سوريا: 1940)؛ من أن “معنى الذي في سورة يوسف “عند” يقصد [يوسف: 25]، والذي في غافر “في” يقصد [غافر: 18]، فلذلك فُرِّق بينهما في الكتابة”.. فهو ليس عندنا بشيء.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock