منذ عقود، تشهد منطقة الشرق الأوسط توترات جيوسياسية متزايدة، واحتكاكات بين قوى إقليمية تسعى للنفوذ والهيمنة. ويُعد الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل، إحدى الحلقات الأحدث في هذه السلسلة من التصعيد، والذي يُثير تساؤلات حول مدى احتمالية اندلاع حرب إقليمية واسعة تشمل العديد من دول المنطقة. ورغم أن الهجوم الأخير لم يكن الأول من نوعه، لكنه يأتي في سياق مختلف وأكثر تعقيدًا من ذي قبل.
واللافت، أن الهجوم الإيراني يختلف هذه المرة عن هجوم أبريل الماضي؛ فالضربة أقوى من سابقتها، بما يؤكد على تغيير قواعد الاشتباك تمامًا، بين الطرفين؛ وهو ما يُثير تساؤلات حل احتمالات الانزلاق إلى حرب تشمل عدة جبهات.
تغير جيوسياسي
يشهد الصراع بين إيران وإسرائيل تصعيدًا مستمرًا منذ الثورة الإيرانية عام 1979، حيث تبنت إيران موقفًا معاديًا لإسرائيل ودعمت فصائل مقاومة، مثل حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. وعلى الرغم من المواجهات غير المباشرة بين الطرفين على مر عقود مضت، إلا أن التصعيد المباشر بينهما ظل في حدود العمليات الاستخباراتية والهجمات المحدودة.
الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل يأتي في ظل تغيرات كبيرة في المشهد الجيوسياسي، سواء فيما يتعلق بتطور برنامج إيران النووي، أو التغييرات السياسية في الولايات المتحدة والشرق الأوسط. هذا الهجوم، الذي استهدف منشآت حيوية إسرائيلية بصواريخ دقيقة، يمثل تصعيدًا لافتًا قد يدفع الطرفين إلى مواجهة أكثر شمولًا. ولعل التطور الأكثر خطورة هو احتمالية أن يتجاوز هذا الصراع حدوده التقليدية ليتحول إلى حرب إقليمية تشمل أطرافًا أخرى في المنطقة.
واللافت أكثر، أن الأنظار قد اتجهت إلى لبنان وإيران بدلًا مما يحدث في قطاع غزة، من حرب إبادة تنفذها إسرائيل، فضلا عما تفعله في الضفة الغربية؛ وبالتالي، فقد كان الهجوم الإيراني خطوة في اتجاه لفت الأنظار عن قطاع غزة، وإن كانت ـ كما نعتقد ـ غير مقصودة من الجانب الإيراني. لكن الأهم، أن إسرائيل هي المستفيد الأول من هذا الهجوم، على الأقل من منظور التغطية إعلاميًا على ما تفعله في الأراضي الفلسطينية، ناهيك عما ستقوم به في جنوب لبنان.
وبالطبع، تعتبر إسرائيل إيران أكبر تهديد لأمنها “القومي”، خاصة في ظل تطور برنامجها النووي والصاروخي، وهو ما تبدى بوضوح في الهجوم الإيراني الأخير، عبر استخدام الصواريخ “فرط الصوتية”.
الرد المحتمل
بعد الهجوم الإيراني الأخير، من المتوقع أن ترد إسرائيل؛ وقد تشمل الردود الإسرائيلية ضربات جوية على منشآت إيرانية داخل إيران، إضافة إلى ما يحدث من استهداف القواعد العسكرية التابعة لحزب الله في لبنان، وهو ما قد يدفع الصراع إلى مستويات جديدة. من جهة أخرى، قد تلجأ إسرائيل إلى تحالفاتها الإقليمية والدولية، لا سيما مع الولايات المتحدة وبعض الدول “العربية”، لتوسيع نطاق ردها وضمان عزل إيران إقليميًا.
إلى جانب الرد العسكري، من المحتمل أن تصعد إسرائيل، بمساعدة الحليف الاستراتيجي الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية- الضغط الدبلوماسي على إيران، من خلال مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في محاولة لتشكيل إجماع دولي ضد طهران.
إذ، إن الولايات المتحدة هي الحليف الأكبر لإسرائيل وتلعب دورًا حاسمًا في المعادلة الإقليمية؛ رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تواجه ضغوطًا متزايدة للتعامل مع التهديد الإيراني بشكل حاسم؛ ورغم تفضيل واشنطن للحلول الدبلوماسية، فإن تصاعد الصراع بين إيران وإسرائيل قد يُجبر الولايات المتحدة على التدخل العسكري أو دعم إسرائيل بشكل مباشر في حرب محتملة.
توازن القوى الدولي يعتبر أيضًا عنصرًا مهمًا في تحديد مسار هذا الصراع. روسيا، التي تعد حليفًا لإيران في بعض القضايا، قد تحاول استغلال الوضع لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، بينما الصين تسعى للحفاظ على استقرار المنطقة لحماية مصالحها الاقتصادية والتجارية. أي تدخل عسكري أمريكي مباشر قد يؤدي إلى مواجهات غير مباشرة بين القوى الكبرى، مما يعقد الأمور بشكل أكبر.
لذلك، من المتوقع أن تكتفي الولايات المتحدة، والإدارة الأمريكية الحالية، بمساعدة إسرائيل، في ظل الاستعدادات الجارية لانتخابات الرئاسة الأمريكية.
لعل الدول المجاورة لإسرائيل وإيران ستكون الأكثر تأثرًا بأي تصعيد عسكري كبير. في مقدمة هذه الدول تأتي لبنان وسوريا، حيث يتواجد حزب الله والقوات الإيرانية في مناطق عدة. وفي حالة اندلاع مواجهة بين إيران وإسرائيل، من المحتمل أن يستهدف لبنان بشكل مباشر من قبل إسرائيل، نظرًا للدور المحوري الذي يلعبه حزب الله في الصراع الدائر في المنطقة.
أما سوريا، التي تعاني من صراع داخلي طويل، قد تجد نفسها مرة أخرى ساحة للصراع الإقليمي، خاصة أن إيران تملك قواعد عسكرية ونفوذًا كبيرًا داخلها. أما الأردن والعراق، فسيواجهان تحديات كبيرة في الحفاظ على استقرارهما الداخلي، في ظل احتمالية تسرب الصراع عبر حدودهما.
ومن الواضح أن الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل، يمثل تغيرًا جيوسياسيًا في المنطقة. ولكن هل يؤدي ذلك إلى حرب إقليمية شاملة؟.. الإجابة على هذا السؤال، تعتمد على عدة عوامل، منها مدى تصعيد الطرفين للصراع، واستجابة الدول الكبرى والإقليمية، والتوازنات السياسية داخل كل من إيران وإسرائيل.
إيران قد تتجنب الدخول في حرب شاملة، خاصة أنها تواجه تحديات اقتصادية كبيرة بسبب العقوبات الأمريكية والأزمة الداخلية المتصاعدة. في المقابل، إسرائيل، رغم قوتها العسكرية قد تتجنب الدخول في مواجهة واسعة مع إيران، في ظل اتساع الجبهات المواجهة لها، في غزة ولبنان، إضافة إلى اليمن وسوريا والعراق.
ولكن السيناريو الأكثر احتمالًا هو استمرار التصعيد المحدود والمتبادل بين إيران وإسرائيل، سواء عبر هجمات عسكرية أو عمليات استخباراتية. هذا النوع من التصعيد، قد يؤدي إلى تصاعد العنف في المنطقة، لكنه لن يصل بالضرورة إلى مستوى الحرب الإقليمية الشاملة؛ أو حتى إلى اتساع ساحات مواجهة إسرائيل، عسكريًا، بالمعنى الذي يتمناه كثير من العرب.
الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل يمثل تصعيدًا بالتأكيد، في العلاقات المتوترة بين الطرفين، ويثير تساؤلات حول تداعياته المستقبلية. في حين أن احتمالية اندلاع حرب إقليمية شاملة تظل بعيدة، خاصة إن العديد من العوامل قد تحول دون ذلك، مثل الرغبة في تجنب المزيد من الدمار والاستنزاف العسكري والاقتصادي. ومن المرجح، أن يستمر الصراع في إطار عمليات محدودة ومتبادلة، إلا أن أي خطأ في الحسابات قد يجر المنطقة إلى دوامة من العنف يصعب احتواؤها.