رؤى

البوصيري إمام المادحين

مقدمة:

اشتهر الإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري(608ه-695ه) (1212م-1296) بمدائحه النبوية، والتي ذاعت شهرتها في الآفاق، وتميزت بروحها العذبة وعاطفتها الصادقة وروعة معانيها، وجمال تصويرها، ودقة ألفاظها، وحسن سبكها، وبراعة نظمها.. فكانت بحق مدرسة لشعراء المدائح النبوية من بعده، ومثالا يحتذي به الشعراء؛ لينسجوا على منواله. ويسيروا على نهجه، فظهرت قصائد عديدة في فن المدائح النبوية، أمتعت عقل ووجدان ملايين المسلمين على مر العصور، ولكنها كانت دائما تشهد بريادة الإمام البوصيري وأستاذيته لهذا الفن بلا منازع.. من هنا احتل البوصيري منزلة سامقة ومكانة عالية بين أعلام التصوف، وشعراء عصره. فقصيدتاه البردة والهمزية سارتا مسير الشمس، ومضرب الأمثال في البلاغة والروعة والبيان في كل العصور. وقد نالت مدائحه النبوية شهرة كبيرة من البيان والبلاغة واستحوذت على قصب السبق في كل رهان. فنراه في قصيدته البردة قد استولت عليه النشوة وموهبة البيان في كل جانب، فأنطقته بهذه الحكمة الرائعة، وجعلت قوله رصينا جزلا. ومن هنا نشير إلى أن تناوله للمدائح النبوية هو الذي أهله لهذه البلاغة، ولذلك السمو في المعاني ولتلك الروعة والسحر في القول، وكان ذلك بمثابة العون والرعاية والمكافأة وشد الأزر من حبه للرسول –صلى الله عليه وسلم– على حسن نيته وصدق عقيدته، وعميق إيمانه. وتلك تشبه أمر حسان بن ثابت شاعر رسول الله، الذي كان يدافع عن الإسلام ورسول الله، حتى أن الرسول قال له قل وروح القدس معك.

حياته وعصره:

ولد البوصيري في مصر وعاش فيها، كان أحد أبويه من أبو صير، والآخر من دلاص، وهما قريتان من محافظة بني سويف. ويرجح أن دلاص هي بلد والده، وابو صير هي بلدة أمه، وأنه ولد بالأولى ونشأ بالثانية، ومن ثم قيل له البوصيري أو الدلاصي.

نشأ البوصيري نشأة قرآنية؛ فحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة. وتعلم بساحة مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، علوم اللغة والأدب وأصول البلاغة والعروض والقوافي، كل ذلك بجانب إتقان حفظه للقرآن وأصول قراءاته مع حفظ الحديث. ولقد عمل بأحد الدواوين  بمديرية الشرقية في بلبيس، ثم تنسك وأخذ في نظم مدائحه النبوية.

عاش البوصيري في ظلال الدولة الأيوبية، وفي أوائل دولة المماليك، وكان هذا العصر هو عصر جهاد للصليبين، ودفاع عن الإسلام من هجوم الغزاة المتعصبين. ولقد شاهد البوصيري انتصار مصر في معركة المنصورة، والتي أسر فيها لويس التاسع ملك فرنسا، واعتقل في دار ابن لقمان عام 648ه، كما عاصر معركة عين جالوت التي انتصر فيها السلطان قطز على جيش التتار في أرض فلسطين.

عاصر البوصيري الصوفي الكبير عمر بن الفارض، وامتازت تلك الفترة بوجود الكثير من العلماء في مختلف المجالات.. انتقل البوصيري الى القاهرة وأقام بها، وتعلّم فيها، ومن شيوخه الكبار ابو العباس المرسي، وكذلك عاصر السيد احمد البدوي والسيد إبراهيم الدسوقي، كما عاصر أبا الحسن الشاذلي،  وابن عطاء الله السكندري.. وغيرهم من أئمة التصوف وأعلامه الكبار.

 كان البوصيري وابن عطاء الله ممن تشربوا روح التصوف من أستاذهم أبي العباس المرسي، فاخذوا مذهبه في السلوك وطريقه في التصوف، وانتفعوا أكبر نفع بصحبته، حتى قيل أنه خلع على البوصيري الشعر، وعلى ابن عطاء النثر. وكان من أشهر تلاميذ البوصيري محقق عصره العز بن جماعة الذي تولى قضاء مصر وعَمّر طويلا. وفي هذا السياق نشير إلى أن الإمام البوصيري كان مدرسة صوفية تتلمذ الكثير عليها. وكان من أعلام شعر التصوف. ولقد توفى في الإسكندرية عن عمر ناهز التسعين عاما.

خصائص شعر البوصيري :

يمتاز شعر البوصيري ببساطة القول، وعدم الاحتفال بالزينة اللفظية، وبطول النفس؛ فقصيدته المسماة (أم القرى) في مدح رسول الله –صلى الله عليه وسلم– تبلغ 636 بيتا، وقصيدته (ذخر المعاد في وزن بانت سعاد) تبلغ 206 بيتا، وقصيدة البردة تبلغ 159 بيتا. كما يمتاز شعره بأنه مرسل على السجية لا تكلف فيه. أمّا الهمزية فمشهورة ذائعة، تتناول السيرة النبوية بأبلغ بيان، وأروع بلاغة. وفي مطلعها يقول البوصيري:

كيف ترقى رقيك الأنبياء           يا سماء  ما طاولتها سماء.

وللهمزية شروح كثيرة، ومعارضات طويلة وقد عارضها أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدته الهمزية المشهورة التي مطلعها:

ولد الهدى فالكائنات ضياء            وفم الزمان تبسم وثناء.

وعلى الجملة نستطيع القول أن شعر البوصيري مملوء بروح صوفية رفيعة، وفيه إشراق الصوفية وبلاغتهم في أسلوبهم وتعبيرهم. وبحق فقد كان البوصيري بعد ابن الفارض من أعظم شعراء التصوف الذين ظهروا في مصر، والذين لم يجارهم في بلاغتهم شاعر، ولم يصل إلى مستوى شاعريتهم أحد. لقد كان ملهما ناطقا عن ميراث حكمة، وحب لله ولرسوله.. كما امتاز شعره  بالرصانة والجزالة وجمال التعبير والحس المرهف وقوة العاطفة.. كما اشتهر بمدائحه النبوية التي أجاد فيها استخدام البيان، وإن غلب عليها المحسنات البديعية في غير تكلف.

أحمد شوقي
أحمد شوقي

البردة أنشودة في حب الرسول:

تعد قصيدة البردة من أهم القصائد التي نظمها البوصيري في مدح رسول الله –صلى الله عليه وسلم– واسمها الحقيقي (الكواكب الدرية في مدح خير البرية) شرحها الشيخ الامهري في كتابه (مختصر الكواكب الدرية في مدح خير البرية) وهي قصيدة طويلة تقع في 159 بيتا، وقد ظلت تلك القصيدة مصدر إلهام للشعراء على مر العصور، يحذون حذوها وينسجون على منوالها، وينهجون نهجها.. وتسمى أيضا قصيدة البراة التي تعتبر أحد أشهر القصائد في مدح رسول الله. ولقد أجمع معظم الباحثين على أن هذه القصيدة من أفضل وأعجب قصائد المديح النبوي، إن لم تكن أفضلها، حتى قيل أنها أشهر قصيدة مدح في الشعر العربي بين العامة والخاصة.. وقد انتشرت هذه القصيدة انتشارا واسعا في البلاد الإسلامية، فقرأها بعض المسلمين في عدد من البلاد الإسلامية كل  ليلة جمعة. كما أقاموا لها مجالس عرفت بمجالس البردة الشريفة أو مجالس الصلاة على النبي.

البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق. فعن البردة تلقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير عنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابا من السيرة النبوية، وتلقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال.

وليس بمستغرب أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول. وفي هذا السياق نشير إلى حقيقة تسميتها بالبردة؛ إذ يحكي عنها البوصيري نفسه؛ فيقول: أصابني فالج(شلل نصفي) أقعدني عن الحركة، فأخذت أتقرب الى الله بالدعاء وصالح الأعمال. ونظمت القصيدة في حب الرسول، وذات ليلة وأنا نائم جاء الرسول، ووضع بردة على جسمي، فأصبحت وأنا أنهض أمشي وليس بي أي مرض. و من هنا سميت بالبردة؛ لأن رسول الله وضع بردته علي البوصيري في المنام.

صفوة القول:

يمثل البوصيري علامة فارقة في فن المدائح النبوية، كما تمثل قصيدته البردة نقطة تحول في هذا الفن؛ وستظل البردة تلهم الشعراء في كل عصر وفي كل زمان، لأنها تمثل أنشودة عشق في مدح الرسول، وتكشف عن صفاء نية وعمق إيمان صاحبها وحبه لرسول الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock