“الشهيد” هو من حضر الواقعة أو الحدث؛ بما يعني أن شهادة الشهيد هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”؛ أما “الشاهد” فهو “من يأتي بالشهادة المعرفية، بما لديه من خبرة” بالشيء أو الحدث، دون حضور الواقعة.
وقد وصلنا إلى أن الشاهد يُجمع على شاهدين وشهود، أما الشهيد فيُجمع على شهداء وشهود؛ بما يعني أن ورود مصطلح “شهود” يؤشر إلى جمع شاهد وجمع شهيد معا، أي ـ وهذا جدير بالتأمل والانتباه ـ يؤشر إلى الحالتين معا، أي أن يكون من يقوم بالشهادة، هو “شاهد” و”شهيد” في الوقت نفسه.
وقد تناولنا في الحديث السابق مصطلح “شاهدين”.. فماذا إذن عن مصطلح “شهداء”؟
بداية، إذا كان الشهداء هم في صيغة الجمع من شهيد؛ لذا فإن مصطلح شهداء يدل على أن شهادة هذا المجموع من الأشخاص هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر” أي إن لديهم “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.. أو لنقل: إن شهادتهم “شهادة حضورية”.
وقد ورد مصطلح “شهداء” في التنزيل الحكيم في ثمانية عشر موضعًا، بالإضافة إلى موضعين اثنين ورد فيهما المصطلح في صيغة “شهدائكم”.
بالنسبة إلى هذا الأخير، يقول سبحانه: “وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [البقرة: 23]. وهنا، لنا أن نؤكد على أن مصطلح “شهداء” لا يُطلق إلا على من يصح أن يُشاهد ويشهد، فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة، وذلك لا يتحقق ـ على خلاف ما يقول البعض من المفسرين القدامى ـ إلا على الأشخاص، وليس على الأوثان.
ومن ثم، فإن التعبير القرءاني “ٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم”، الذين من المفترض أن تكون شهادتهم “شهادة حضورية”؛ هذا التعبير، يأتي ليحمل في مضمونه التحدي والاستخفاف بهؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب القرءاني في الآية الكريمة؛ التحدي كما يتبدى في ختام الآية “إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ”، والاستخفاف عبر الوصف “مِّن دُونِ ٱللَّهِ”، حيث إن “الدونية” تُشير إلى الأقل في المكانة، كما في قوله عزَّ وجل: “لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ…” [آل عمران: 28].
ولعل هذه الدلالة التي يتضمنها مصطلح “شهدائكم”، تتأكد من خلال الموضع الثاني، الذي يرد فيه المصطلح، نعني قوله تعالى: “قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 150].
وهنا -عبر هذه الآية الكريمة- يأتي الأمر الإلهي “فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ”، بما يدل على أن شهادتهم زورًا؛ ومن ثم، يَرِد التأكيد الإلهي “وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا”. ثم، يأتي ختام الآية تعريفًا لهؤلاء، حيث إنهم ليسوا فقط “لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ”، ولكن، إضافة إلى ذلك “وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ”.
ومن المنظور اللساني، فإن لفظ “يَعۡدِلُ” يدل على العدل في الحكم بين شيئين؛ ولكن في حال أن يكون مصحوبا بحرف الجر “الباء”، فإنه يؤشر إلى الشيء عديلا ومساويا لشيء آخر. وقد جاءت بهذا المعنى، في آية أخرى، في السورة نفسها، سورة الأنعام، في قوله عزَّ من قائل: “ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 1]. وبالتالي، فإن التعبير القرءاني “بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ”، لا يؤشر فقط إلى “ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ”، ولكن يدل على من يجعلون ما لا يصح أن يكون مساويا لله، ومساويا وعدلا وعديلا لله؛ فهذا فعل من جعلوا لله شركاء، وتكون شهادتهم، بالتالي، زورا.
بداية.. من الضروري توضيح الفارق في المعنى، والدلالة، بين حرفي الجر “اللام” و”على” من منظور فعل الشهادة؛ حيث إن حرف الجر “على” يُفيد الاستعلاء، في حين يُفيد حرف “اللام” التبيين والاختصاص. وفي غالب الأحيان، عندما يُقال شهد فلان لفلان، يأتي معناها أنه شهد لصالحه، بما هو خير ومنفعة له؛ لكن، عندما يُقال شهد فلان على فلان، يكون معناها شهد عليه بما هو شر، أو بما يجر عليه عقوبة ما. هذا في الإطار العام للمعهود الذهني بين البشر.
وقد وصلنا في حديث سابق، إلى أنه في آيات التنزيل الحكيم، عندما تقترن “الشهادة” بحرف الجر “على”، فهي تأتي للدلالة على شموليتها لمعاني كل من الخير والشر معا؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 98].. فالله تبارك وتعالى “شَهِيدٌ” على كل شيء من أعمال العباد، خيرا كان أو شرا.
كذلك، بالنسبة إلى أمة محمد عليه الصلاة والسلام، التي جعلها الله تبارك وتعالى “أُمَّةٗ وَسَطٗا”، فهي ستأتي في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”؛ وفي الوقت نفسه، سيكون الرسول “شَهِيدٗاۗ” على أمته؛ كما في قوله سبحانه: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ” [البقرة: 143]. ولنا أن نُلاحظ، هنا، كيف أن الخطاب القرءاني يختص بـ”ٱلرَّسُولُ”، أي يختص بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في مقام “الرسالة”.
ولعل هذا ما يتأكد في قوله عزَّ وجل: “وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ” [الحج: 78]. ولنا أن نتأمل الأحرف الثلاثة المتتالية “وَفِي هَٰذَا لِـ”؛ إذ، إن “وَفِي هَٰذَا” تؤشر إلى السياق القرءاني في الآية الكريمة قبلها “وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ”؛ أما حرف اللام “لِـ”، الذي يُطلق عليه هنا “لام التعليل”، فيأتي سببًا لذلك الذي تؤشر إليه “وَفِي هَٰذَا”.. وبالتالي، “يَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ”، والرسول عليه الصلاة والسلام، كـ”شَهِيد”، تكون شهادته في هذه الحال شهادة “معرفية عينية”.
وهكذا.. فإذا كان مصطلح “شهداء” يرد للدلالة على من تكون شهادتهم “شهادة حضورية”؛ وإذا كان التعبير القرءاني “شهداء على” يرد للدلالة على الشمولية لمعاني كل من الخير والشر معا، بمعنى أنه من المفترض أن تكون الشهادة “شهادة موضوعية” لا تحمل انحيازا ما، أو تحيزا.. لذا، يُصبح التساؤل: ما الدلالة في التقديم والتأخير الحاصل في آيتي “البقرة” و”الحج” بخصوص “شُهَدَاءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”؟
وللحديث بقية.