مختارات

ليست مسرحية.. إيران وإسرائيل تصعيد متدرج نحو الحرب الكبرى

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عمان

حسين عبد الغنيكنت أعتقد أن الحديث عن «مسرحية» عند تناول الضربة الإسرائيلية على إيران في الـ٢٦ من أكتوبر الجاري أو على الضربة الإيرانية على إسرائيل في مطلع الشهر نفسه يدخل في باب العبث السياسي، لكن انتشار هذه السردية بشكل مخطط وأحيانا بحسن نية يجعل مناقشتها ضرورية إذ إنها تمثل مدخلا لفهم مستقبل الصراع الإقليمي الجاري وما قد تواجهه شعوبنا وبلادنا من أخطار محدقة.

أولا، من الناحية الاستراتيجية لا يوجد منذ عام ١٩٧٩ مشروعان متصارعان على خريطة الشرق الأوسط سوى المشروع الأمريكي/ الإسرائيلي من جهة والمشروع الإيراني من جهة أخرى، هذا العام الاستثنائي كان عاما فارقا في جيواستراتيجيا الإقليم فيه خرجت مصر -بمعاهدة السلام- من الصراع العربي – الإسرائيلي وتبعها تدريجيا النظام العربي الرسمي ودخلت فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية تملأ فراغا تركه العرب الذين تخلوا تماما عن القضية الفلسطينية. كانت إيران قبل ثورة الخميني حليف واشنطن وتل أبيب الأول في الإقليم وشرطيها المكلف بحماية ثروة النفط في المنطقة مع من ينتدبه الشاه من دول المنطقة لمساعدته في دوره الشرطي. وكانت إيران أيضا وقتها شيعية وليست سنية ولديها برنامج نووي منذ عهد الشاه لم يخترعه الخميني وكان بالإمكان أن تظل متمتعة بالرضا والسلاح الأمريكي ويظل حاكمها يستقبل كما كان يستقبل الشاه من دول المنطقة استقبال الفاتحين وممثل الدولة الإقليمية الكبرى المتنفذة لكنها أبت إلا أن تقاوم النفوذ الأمريكي وهيمنته المطلقة على المنطقة.

باختصار وباستثناء المشروع القومي العربي الذي بدأ بكسر احتكار السلاح الغربي وتأميم القناة ١٩٥٦ الذي قادته مصر للتحرر والتخلص من التبعية للغرب، ليس هناك مشروع مقطوع بعدائه لهيمنة الغرب والولايات المتحدة ومعاداة الأخيرة هي وإسرائيل له سوى المشروع الإيراني.

جمال عبد الناصر

نجاح المقاومة الفلسطينية في شن هجوم طوفان الأقصى العام الماضي كان التطور الذي قضى تماما على أي فرصة للتعايش بين المشروعين. نقل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ مستويات الصراع بينهما من الحرب في الظل إلى الحرب في العلن ومن المواجهة غير المباشرة إلى المواجهة المباشرة. بعدما صار الصراع وجوديا ونهائيا واتخذت واشنطن وتل أبيب قرارهما بإزالة محور المقاومة الذي يدعمه المشروع الإيراني يصبح الحديث عن الحرب الإقليمية الشاملة مسألة وقت. وبعدها يصبح خطاب الجالسين على الخطوط الجانبية من العرب عن تفاهم استراتيجي بين طهران وواشنطن لتقسيم العالم العربي لمناطق نفوذ بين طهران وتل أبيب هو هزل في مقام الجد وتلاعب غير مسؤول بمصائر شعوبهم التي ستكون أول من يكتوي بنار هذه الحرب الشاملة المرجحة بين الإيرانيين والإسرائيليين.

بل إن هذه الحرب الإقليمية في نظر بعض الاستراتيجيين في الغرب بدأت بالفعل ولكنها حتى الآن ما زالت كحرب أو كصراع عسكري ما زالت عند منطقة منخفضة أو متوسطة الشدة.

مع هكذا تقدير يصبح الحديث عن أن الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران خاصة منذ ضربة إيران للكيان في أبريل من العام الجاري هي ضربات وهمية أو تمثيلية محبوكة.. حديث غفلة وعمي استراتيجي يحول دون اتخاذ ما يلزم لمنع التصعيد ولمنع التحول نحو حرب كاملة وصراع عالي الشدة.

إذا أخذنا ضربتي الشهر الجاري المتبادلتين بين العدوين الإقليميَين كمثال تجريبي سنجد ليس فقط أنهما كانتا مؤثرتين وحقيقيتين بل إنهما استدعيتا تغيرات جوهرية لم تقتصر عليهما بل على مستوى مرتفع من تدخل وتداخل غير مسبوق من الأطراف الدولية في الصراع لم يكن موجود قبلهما.

الضربة الصاروخية الإيرانية في الأول من أكتوبر شملت كامل جغرافيا فلسطين التاريخية وأصابت قواعد جوية حساسة للجيش الإسرائيلي لكن أثرها الأهم كان إرباكا لنظام القبة الحديدية الإسرائيلية وإثباتا بأنه نظام غير خارق ومليء بالثقوب. أثبت الهجوم الإيراني الثاني مجددا أن إسرائيل عاجزة لوحدها عن حماية نفسها وهنا استدعت الضربة الإيرانية مستوى من التدخل الأمريكي في الحرب لم يكن موجودا وتمثل في تورطها بشريا فيها بإرسال مئات من القوات الأمريكية لتشغيل النسخة الأحدث من نظام الدفاع الجوي المعروف باسم «ثاد» على الأراضي الإسرائيلية للتصدي للصواريخ الباليستية الإيرانية في المستقبل.

الضربة الإسرائيلية في الـ٢٦ من أكتوبر كانت حقيقية وألحقت أضرارا بقواعد دفاع جوي ورادارات إيرانية. وكشفت للإيرانيين الحاجة إلى مستويات للدفاع الجوي أفضل بكثير تكنولوجيا إذا أرادت أن تواجه ميزة التفوق الجوي الهائل لإسرائيل. استدعت الضربة الإسرائيلية أيضا مستوى من التدخل الروسي أكبر بكثير من مستوى التدخل المحدود الذي مارسته موسكو منذ اندلاع الصراع في المنطقة. فقبل الضربة الإسرائيلية أمدت موسكو طهران بمعلومات دقيقة عن التجهيزات الإسرائيلية مما توافر لديها من الأقمار الصناعية والاستخبارات، كما كانت المرة الأولى منذ اندلاع الصراع التي توجه فيه موسكو تحذيرا مباشرا لإسرائيل من القيام بضرب إيران بصورة تفجر الشرق الأوسط وربما كان ذلك التحذير عنصرا ولو محدودا في خلفية القيود والحدود التي تمت فيها الضربة.

هذه القيود والحدود التي جعلت الضربة الإسرائيلية موجهة لأهداف عسكرية مثلما فعل الإيرانيون ولم تتخطاها لاستهداف منشآت النفط والغاز الإيرانية أو منشآت البرنامج النووي كانت انعكاسا لتوازنات قوى حقيقية وليس مسرحيات ولعبة غميضة. كانت تأجيلا مؤقتا للمواجهة وليس إلغاء لحتمية اندلاعها.

أول وأهم هذه القيود اسمه الولايات المتحدة القطب الأعظم وحساباته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أن أسبوعا واحدا يفصل بين الناخب الأمريكي والانتخابات الرئاسية وآخر شيء يريده هذا الناخب هو رؤية بلاده متورطة بشكل مباشر في حرب واسعة إقليمية حتى لو كان الذي يستدرجها لذلك طفلها الإسرائيلي المدلل. آخر شيء يريده هذا الناخب هو ارتفاع تكلفة الحياة وارتفاع أسعار البنزين وهو أمر كان ليكون مؤكدا لو سمحت واشنطن لتل أبيب بضرب منشآت النفط الإيرانية. منها أيضا أن الولايات المتحدة تدرك أن ضربة جوية إسرائيلية على البرنامج النووي الإيراني لن تكون ممكنة دون مشاركة أمريكية مباشرة بأسلحة توجد في حوزة واشنطن فقط.. وأن ضربة مثل هذه ليس فقط ستفشل في القضاء التام على المشروع النووي الإيراني الذي نثرته إيران في مختلف المناطق وحصّنت بعضه بطريقة يصعب معها تدميره ولكن أيضا سيجبر إيران على حسم قرارها الذي أجلته كثيرا وتقوم بإنتاج القنبلة النووية. فكرة إزالة النظام الإيراني بالقوة كما يتخيل نتنياهو ليس حتى الآن خيارا واقعيا بالنسبة لواشنطن فغزو هذا البلد الكبير بملايينه التي تقترب من السبعين مليونا ومساحتها الجغرافية الشاسعة واعتزازه القومي بحضارته وتشبعه الأيديولوجي هو مشروع انتحار يصبح معها الفشل الأمريكي في أفغانستان نزهة مريحة. تأمل الإمبراطورية الأمريكية كذلك إلى استعادة الدرة الإيرانية إلى تاجها عبر قلب النظام الثوري المعادي لها في إيران من الداخل وليس بغزو مباشر يجلب لها عداوة الإيرانيين للأبد وهي لم تكف في الأربعة عقود ونصف الماضية عن تجنيد المعارضين للنظام ودعمهم وتأليب كل حراك اجتماعي مضاد للنظام.. في حسابات واشنطن أيضا أن الصين وروسيا اللتين كان دورهما شديد التواضع في الحرب عندما يتعلق الأمر بحرب إبادة إسرائيلية على بلدين عربيَّيْن هما فلسطين ولبنان -ربما لأن لهما رأيا أن أمتهم العربية الأَولى بنصرتهم قد خذلتهم- لن يقفوا ساكنين إذا تهدد الوجود الإيراني بعمل عسكري جامح إسرائيليا. إيران بالنسبة لبكين وموسكو تقع في منزلة الحليف الاستراتيجي الموثوق في عدائه للإمبريالية الأمريكية. وهو طرف مستقل في قراراته بصورة غير متاحة لتركيا الناتوية بشكل كامل وغير متاح بالقطع للعرب الذين يعلم الصينيون والروس منذ سبعينيات القرن الماضي أنهم باعوا هذا الاستقلال ومنحوا تفويضا على بياض للولايات المتحدة تفعل به وبهم ما تشاء.

هنا قيدت واشنطن الرد الإسرائيلي بضرب أهداف عسكرية وتجنب الأهداف النفطية والنووية، وفرضت مصالحها العليا في تجنب حرب واسعة في الشرق الأوسط في هذا الوقت على مؤسسة الحرب الإسرائيلية. هنا تجلت حقيقة أن إسرائيل ما هي إلا أداة وظيفية أمريكية وأنه عندما يجدّ الجد فإن واشنطن تأمر وإسرائيل تطيع. هنا تجلت خدعة بايدن في مطلع هذا الشهر التي زعم فيها أن واشنطن لم تعد قادرة على لجم إسرائيل واتضح أنها مجرد خدعة للسماح لإسرائيل بتنفيذ كل الاغتيالات واستباحة السماوات والأراضي العربية. كتبت على هذه الصفحة قبل شهور عديدة أن الحرب الإقليمية مؤجلة ولكنها قادمة حتما إذا ظلت عوامل الصراع بين المشروعين قائمة وإذا ظل العرب مستسلمين لحالة الخروج من التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock