رؤى

‎عن ثقافة المقاومة.. والذين نعرفهم “فِي لَحْنِ الْقَوْلِ”!

‎إذا كان السابع من أكتوبر من العام المنقضي، وما تبعه من أحداث يعتبر في نظر كثيرين من مختلف التوجهات – حدثا فارقا له من القوة والأثر، ما يجعل العالم بعده مختلفا؛ عما قبله- فلا أقل من أن نُراجع بعض المفاهيم لتحريرها؛ استيضاحا للرؤية التي غامت والتبست لدي البعض؛ بفعل استقرار وجهات نظر تكلست منذ دهر، حول تناحر أيديولوچي عقيم؛ لم يعد ذا قيمة تُذكر، في ميزان قوى الصراع الذي تدور رحاه الآن.

على منصة X كتب مجدي خليل في حسابه: “الحزن الرهيب في الشارع المصري على يحيى السنوار إلى حد “المناحة”؛ يجعلني أفقد الأمل في (هذه) البلد تماما”.

‎ليس خليل فحسب هو من فزع، من حزن المصريين على القائد الشهيد.. الفزع بالتأكيد طال آخرين على نحو أفقدهم الأمل وأشياء أخرى.. هؤلاء الذين أذهلوا رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بمنشوراتهم المعادية للمقاومة، والتي يصطف بعضها دون مواربة مع السردية الصهيونية.. تساءل الكثيرون على طريقة الشاعر صلاح عبد الصبور: “لا أدري كيف ترعرع في وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد؟”.

‎ليس من العسير محاولة الإجابة عن سؤال عبد الصبور.. فما حدث كان على مرأى ومسمع من الجميع، وليس في الخفاء.. القليلون خُدِعوا وصاروا -بفعل الهوى- أدوات في أيدي الدخيل يحركها كيفما شاء، والكثيرون عملوا عن قصد وبمقابل في سبيل تسييد ثقافة المحتل ونمذجتها، بما يجعلها رمزا للتقدم والرقي الحضاري والإنساني، ويَصِمُ ما عداها بالتخلف والتردي والجهل.. وفق ما يُعرف اصطلاحا بـ “التثاقف” الذي يقول عنه جيرار لكلرك أنه من الممكن “استعماله للإشارة إلى الأنماط التي يُقبل بموجبها مظهر ثقافي معين في ثقافة أخرى؛ بحيث يتلاءم ويتكيف معها، ما يفترض مساواة ثقافية، بين الثقافة التي تعطي وتلك التي تتقبل، والتكيف هو السيرورة التي تتحول بموجبها عناصر الثقافة المُسْتَعْمَرة والمُسَيْطَر عليها نحو حالة تتلاءم مع شكل الثقافة المسيطرة”.

ما يعني أن حالة المثاقفة تلك؛ ليست إلا مخاتلة تبدو – ظاهريا- كعلاقة طبيعية بين ثقافتين، تأخذ إحداهما من الأخرى بمقدار ما تعطي.. لكن الحقيقة تكون خلاف ذلك إذ تتسيد ثقافة المتغلب وتهيمن بأدق تفاصيلها، بُغية الإحلال والإزاحة من خلال عمليات تتخذ من التسفيه والتحقير والتفكيك لعناصر الثقافة الأخرى أدوات ومعاول هدم؛ بهدف التغيير الكُلي لبنية الوعي الخاص بتلك الثقافة في وضعها المتراجع.

ما يعني أن عملية التثاقف المرصودة في بلادنا الآن هي -في حقيقتها-علاقة تكشف عن اللاتكافؤ الواضح بين ثقافة الإنسان العربي الذي اسْتُغِلَ واسْتُعْمِرَ ولا زال، وثقافة الإنسان الغربي الذي يراهن اليوم على تلك المنظومة الفكرية الراضخة؛ لتنجز له ما كان ينجزه سلفا بكلفة أعلى.

‎يعني ذلك أيضا المفاصلة بين مصطلح الثقافة، وهو مصطلح وثيق الصلة بالأصالة والموروث أو كما يعرفه الجابري بقوله “إن الثقافة هي المُعَبّر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يعمل” والمثاقفة أو التثاقف الذي يعني فيما يعنيه الفكر المضاد لثقافة الأمة؛ وآلياته التخريبية.

‎وفق ذلك ستتضح الصورة أكثر، لتكشف لنا أن أصحاب تلك الرؤى الرمادية أو المتواطئة، ما هم إلا “متثاقفون” ناتئون عن وعي الأمة وثقافتها التي تعلن عن نفسها كل يوم، في التماهي -شبه الكامل- مع خطاب المقاومة، وتضحيات أبطالها.

‎تكشف لنا التعريفات المتعددة لعملية “التثاقف” أو “المثاقفة” عن انسحاق تام مدفوع بأسباب تتزيا آراء التعقل والواقعية -حد الانبطاح- وتلتفت بالكلية عن مآلات كارثية للخضوع والاستسلام؛ سجّلها التاريخ في صفحاته السود.

يحاول “المتثاقفة” إقناعنا أن كيانا سرطانيا؛ يتشكك كثير من المنتسبين إليه في بقائه؛ يستطيع إفناء شعب يضرب بجذوره في أرضه منذ آلاف السنين؛ وله من العزم والهِمَّة والقدرة على التضحية والفداء- ما ليس لغيره.

وربما كان للثقافات الأصيلة، التي تكونت بفعل الصمود في وجه الإجرام الغربي، ورأس حربته في المنطقة- قوة التجدد والإبداع وإعادة ضبط المفاهيم ومحو الادعاءات؛ مبقية على جذوة النضال متقدة.. وإن خبت لبعض الوقت؛ حتى يظن من ليس له علم بطبيعتها؛ أنها انطفأت وانتهت.

وهذا ما لا يفهمه ولا يريد فهمه العقل الغربي المتغطرس الذي تكلّس عند مرحلة البطش؛ برغم أن تجاربه الفاشلة في مواجهة ثقافة المقاومين؛ لا تعد ولا تُحصى.

لقد ألغى هذا العام الممتد من القتال كل التصنيفات بتفريعاتها؛ ليعود الأمر إلى “فسطاطين” الأول للمقاومة ولكل منتمٍ إليها ومناصر، والآخر للصهيونية  وأعوانها  من “المتثاقفين” بالأجر أو بالهوى المريض، والذين أعلن بعضهم عن يأسه مؤخرا من هذا الشعب، الذي كلما حسبوا أنه ذهب بعيدا؛ يفاجئون به متمترسا بإصرار خلف المقاومة قولا وفعلا وفكرا.. روحا وقلبا وعقلا.

هؤلاء المتثاقفة الذين نعرفهم اليوم “فِي لَحْنِ الْقَوْلِ” هم الذين سأل الشاعر صلاح عبد الصبور- رحمه الله- عنهم، وكيف ملئوا وادينا الطيب- بفحشهم- على هذا النحو المزعج.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock