رؤى

مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”.. دلالة التقديم والتأخير في مصطلح “شهداء”

إذا كان مصطلح “شهداء”، كما وصلنا إليه في الحديث السابق، يرد للدلالة على من تكون شهادتهم “شهادة حضورية”؛ وإذا كان التعبير القرءاني “شهداء على” يرد للدلالة على الشمولية لمعاني كل من الخير والشر معا، بمعنى أنه من المفترض أن تكون الشهادة “شهادة موضوعية” لا تحمل انحيازا ما، أو تحيزا.. لذا، يُصبح التساؤل: ما الدلالة في التقديم والتأخير الحاصل في آيتي “البقرة” و”الحج” بخصوص “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ”؟

هذا هو التساؤل الذي أنهينا به الحديث السابق، حول دلالة مصطلح “شهدائكم”، الذي ورد في آيات الذكر الحكيم في مرتين [البقرة: 23]، [الأنعام: 150].

وفي محاولة الإجابة، نورد آيتي “البقرة” و”الحج”.. في سورة البقرة، يقول سبحانه: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ” [البقرة: 143].. وفي سورة الحج، يقول تعالى: “وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ” [الحج: 78].

بداية، لنا أن نلاحظ أنه عندما تقترن “الشهادة” بحرف الجر “على” فهي تأتي للدلالة على شموليتها لمعاني كل من الخير والشر معا؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 98].. فالله تبارك وتعالى “شَهِيدٌ” على كل شيء من أعمال العباد، خيرًا كان أو شرا.

أيضا، لنا أن نؤكد من جديد على أن “الشهيد” هو من حضر الواقعة أو الحدث؛ بما يعني أن شهادة الشهيد هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر” أي “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”؛ في حين أن “الشاهد” هو “من يقوم بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث.

أما من حيث التقديم والتأخير بخصوص “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ”، فهو يبدو بوضوح؛ ففي [البقرة: 143]، يأتي الرسول تاليا للأمة الوسط؛ أما في [الحج: 78]، يأتي الرسول سابقا للأمة المحمدية، الأمة الوسط.

ومن خلال تأمل السياق القرءاني في الآيتين الكريمتين، نجد أنه في آية [البقرة: 143] ورد تأخير “شَهِيدٗاۗ”؛ ليس فقط لأن سياق الآية يرد فيه الحديث عن الرسول: “لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ” [البقرة: 143].. ولكن، أيضًا، لأن الآية التالية يرد فيها استكمال الحديث عن الرسول وعن “القبلة”: “قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ” [البقرة: 144].

لذلك، ورد تأخير “شَهِيدٗاۗ” حتى يكون الخطاب القرءاني مُتصلًا؛ إذ لنا أن نُلاحظ السياق القرءاني “وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ”. ومن الواضح أن “كُنتَ عَلَيۡهَآ” خطاب قرءاني موجه للرسول الكريم، يستكمل في الآية التالية “قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ”، وذلك في إطار أفعال الأمر الواردة في الآية “فَلَنُوَلِّيَنَّكَ.. فَوَلِّ وَجۡهَكَ…”.

أما في آية [الحج: 78]، فيرد تقديم “شَهِيدٗاۗ”، من منظور أن الخطاب القرءاني عن “المؤمنين”، ولنفس السبب، أي حتى يكون الخطاب القرءاني مُتصلًا: “لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ” [الحج: 78]. وهنا نُلاحظ كيف وردت أفعال الأمر الخاصة بـ”المؤمنين”، في الآية، بوصفها خطابا قرءانيا موجها، في سياق قرءاني متكامل “فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ”.

في هذا الإطار، يكون الرسول “شهيدًا” أي يتسم بـ”المعرفة الحضورية”.

وفي هذا الإطار أيضا تأتي شهادة الرسول الأكرم -عليه الصلاة والسلام- كما في قوله سبحانه، عن رسوله: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ” [النحل: 89].. فالرسول، عليه الصلاة والسلام، سيكون “شَهِيدًا”؛ أي إنه، عليه الصلاة والسلام، سيكون “شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”، أي شهيدًا على كل شهيد من كل أمة. ليس فقط، ولكنه سيكون كذلك شهيدا على أمته؛ كما في قوله عزَّ من قائل: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ…” [البقرة: 143]. إذ، إن الأمة المحمدية، وإن كانت في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”، إلا أن الرسول سيكون على أمته “شَهِيدٗاۗ”.

ضمن المواضع التي ورد فيها مصطلح “شُهَدَآءَ”، ويرد فيها التقديم والتأخير، آيتي “النساء” و”المائدة”..

في سورة النساء، يقول سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ…” [النساء: 135].. وفي سورة المائدة، يقول تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ…” [المائدة: 8]. وكما هو واضح، فإن الخطاب القرءاني في الآيتين الكريمتين، هو خطاب موجه إلى المؤمنين “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ”؛ وفي الآيتين نُدرك أن القوامية والشهادة لله، وأن “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ” مأمورون بالقوامية وبالشهادة وبالقسط.. ليس فقط، ولكن في الآيتين يأتي الأمر الإلهي للمؤمنين “كُونُواْ”.. ومن ثم، فإن التساؤل يتمحور حول: “كُونُواْ” ماذا؟

في الآية الأولى [النساء: 135] يأتي السياق ليجعل القوامية بالقسط مُقدمة على الشهادة لله “كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ”؛ بينما في الآية الثانية [المائدة: 8]، يأتي السياق ليجعل القوامية لله مُقدمة على الشهادة بالقسط “كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ”.

وفي محاولة التعرف على دلالات التقديم والتأخير في الآيتين، لنا أن نُلاحظ السياق القرءاني في كل منهما؛ من حيث إن هذا السياق هو ما يوضح هذه الدلالات.

في سورة النساء، يقول عزَّ وجل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا” [النساء: 135]. وهنا نُلاحظ أن الخطاب القرءاني في الآية الكريمة يؤشر إلى الحديث عن “الشهادة” على النفس والوالدين والأقارب؛ ولأن الإنسان بطبعه يميل إلى حب النفس، والانحياز إلى الوالدين والأقارب.. لذلك يرد تقديم “كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ”؛ كما يرد أيضا، النهي الإلهي “فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ”.

وفي سورة المائدة، يقول عزَّ من قائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [المائدة: 8]. وهنا، نُلاحظ أن الخطاب القرءاني في الآية الكريمة يؤشر إلى الحديث عن “الشهادة” على أناس ليسوا من ذوي القُربى بالنسبة إلى الشخص القائم بـ”الشهادة”.. لذلك يرد تقديم “كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ”، بكل ما تحمل من دلالات ومعاني؛ وأيضا يرد النهي الإلهي “وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ”، وهو النهي الذي يليه مُباشرة الأمرين الإلهيين “ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ”.

في هذا الإطار، لنا أن نستشعر أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” في آيات التنزيل الحكيم، هي نوع من إثبات وقوع الحدث؛ وأن الـ”شُهَدَآءَ” مأمورون بالواجب الذي تفرضه العدالة، من منظور الأمر الإلهي بـ”العدل”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock